مرت نساء سوريا منذ بداية الثورة عام 2011، بمختلف التجارب، فمنهن من رفعن حجاب الصمت وطالبن بالإصلاحات المُحقّة ليجدن أنفسهنّ في مواجهةٍ مباشرة مع ذويهن والمجتمع، فضلاً عن القمعٍ الممنهج الذي مارسته مختلف أطراف النزاع السوري لاحقاً، ومنهن من أصبحن عرضةً لاعتداءات متنوعة تبدأ بالاضطهاد ولا تنتهي بالاغتصاب، ومنهن من ترملن أو تطلقن، ما وضعهن أمام مصيرٍ مجهول متأرجحات بين مسؤولياتٍ أثقلت كاهلهن، سواء من كنّ منهن في المناطق الساخنة التي شهدت معارك شرسةً أو في مخيمات النزوح واللجوء.
تروي زيلان (23 عاماً)، وهي من القامشلي وتعمل في راديو محلّي، عن فترة مشاركتها في الحراك الشعبي في مدينتها، وتقول: “كان يمنعني أخي من المشاركة في التحركات بذريعة المجتمع المعروفة: أنت امرأة ولا تدرين ما الذي يُمكن أن يفعلوه بك”.
ويُقيّد المجتمع السوري في المناطق الشرقية النساء بشكل كبير نتيجة غلبة الأعراف العشائرية على ما عداها، وهذا ما لمسته زيلان خلال مشاركتها في بداية الثورة، فهي كانت تستغل ساعات عمل أبيها لتهرب من المدرسة وتُشارك في المظاهرات.
في كل مرة نزلت فيها زيلان إلى الثورة، كانت تشعر بقيمة وجودها، كونها “كرديةً أولاً وشابةً سوريةً ثانياً”. لم تجرؤ زيلان يوماً على التحدث بلغتها الأم في المدرسة مع أصدقائها، ولكن في التظاهرات كانت تهتف بالكردية والعربية من دون خوف. تقول: “في المظاهرات لن يستطيع أبي أو مدير المدرسة إغلاق فمي، ولا حتى ذلك الشرطي الذي لاحق أخي وقام بضربه ضرباً مبرحاً”.
التمييز والطائفية
شاركت لينا بركات (43 عاماً)، وهي من حمص، في أولى المظاهرات التي قامت في المدينة ضد نظام الأسد. كانت تعتقد أن تغييراً كبيراً يحصل وأن المواطن السوري سيحصل على حقوقه ويرسخ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها سريعاً اكتشفت أن الأمور ليست زهريةً كما تخيّلت. تقول: “بدأت تُطلَق الشعارات الطائفية التي طالت الطائفة العلوية تحديداً، والتي أنتمي إليها، مما جعل مشاركتي ضمن الحراك الشعبي يشوبها الخوف، ولكن بعد أن انتقلت إلى مدينة القامشلي وعملت في مجلس المرأة السورية، استطعت أن أكون فاعلةً أكثر في المطالبة بحقوق المرأة والدفاع عنها وحقوق المجتمع عامة”.
يُقيّد المجتمع السوري في المناطق الشرقية النساء بشكل كبير نتيجة غلبة الأعراف العشائرية على ما عداها
ونتيجة عملها ناشطةً مدنيةً ومطالبتها بحقوق المرأة، تعرضت بشكل مستمر لملاحقة أمنية من قبل الحكومة السورية، إذ قام أحد عناصر الأمن بالتواصل معها وطلب منها التوجه إلى فرع الأمن العسكري في مدينة القامشلي، لكنها رفضت وبدّلت رقم هاتفها، وبعد فترة علمت من أهلها أن عناصر الأمن يكررون زيارتهم والسؤال عنها وعن نشاطها، وعما تعمل، وهل تتردد إلى منزلهم، وطلبوا منهم إخبارهم في حال أتت لزيارتهم وعلمت لاحقاً أن هناك منع سفر بحقها.
وتستطرد بركات بأنه من خلال تغيير مكان إقامتها كان هناك بعض التحديات وخاصةً التأقلم مع بيئة جديدة وبعض الفروقات في العادات والتقاليد، وهي تعرضت لبعض الشائعات من المحيطين بها حول أنها من الموالين للحكومة السورية، وهي تعمل في المنطقة لصالحهم كونها تنتمي إلى الطائفة العلوية، إلا أن واقعها يثبت العكس، تقول.
ظلم ممتد
وعانت النساء السوريات على مدى الأعوام التي مرّت من كُل أنواع الاضطهاد الذي شاركت فيه كُل القوى التي سيطرت على المناطق السورية المختلفة، وتختلف تجاربهن باختلاف سطوة الجهة الحاكمة. تقول ندى (35 عاماً)، وهي أرملة عسكري في الجيش السوري، إن “حياة المرأة في مناطق سيطرة الحكومة السورية طبيعية من ناحية الروتين اليومي، لكنها تقاسي أوضاعاً سيئةً على أصعدة عدة، كقلة توافر فرص العمل في ظل التدهور الاقتصادي الذي شهدته البلاد”.
كانت لينا تعتقد أن تغييراً كبيراً يحصل وأن المواطن السوري سيحصل على حقوقه ويرسخ الديمقراطية، لكنها سريعاً اكتشفت أن الأمور ليست زهريةً كما تخيّلت، فأن تكون علوية في تجمعات وتظاهرات ضد النظام كانت مخاطرة اضطرت إلى التخلّي عنها مع الوقت
لدى ندى ثلاثة أطفال، وزوجها قُتل في تُدمر، وهي تحاول اليوم أن تعيلهم، ولكن المهمّة ليست سهلةً على الإطلاق. تُشير إلى أن عقد العمل في معمل خياطة كانت تعمل فيه انتهى مع نهاية عام 2021، ولم يقبل صاحب المعمل تجديده بالرغم من معرفته بظروفها. تقول: “أخبرته مرّةً أن المعاش قليل ولا يكفيني وأنا أرملة شهيد، ليرد: كل أولاد البلد شهداء وليس زوجك فقط من استشهد”.
تُضيف: “كانت تمرّ الأيام وأطفالي لا يتناولون سوى وجبة في اليوم، وحتى محالّ الألبسة تستغل أوضاع النساء كحالتي، فتعرض مثلاً عشر ساعات عمل عليهن في اليوم مقابل 50 ألفاً شهرياً، أي قرابة 12 دولاراً. المنطقة سيئة جداً من هذا الجانب، وهنا كلٌّ يقول: اللهم نفسي”.
وتُعدّ مشاركة المرأة في مناطق الحكومة السورية ضعيفةً، إذ تمّ حلّ الاتحاد النسائي العام عام 2017، فيما تضاءلت نسبة تمثيل المرأة في مجلس الشعب أكثر من السابق، فبعد أن كانت 12% أصبحت 8%، بالإضافة إلى الأعباء التي خلّفتها الحرب وفقدان السكن وتعرضها للتغييب القسري وعدم تشجيعها وإعطائها المساحة الكافية للانخراط في أعمال المجتمع المدني الذي أصبح مقتصراً على بعض الأسماء دون غيرها، حسب عالية (اسم مستعار)، وهي ناشطة اجتماعية من حماه رفضت الإفصاح عن هويتها.
تذكر عالية أنه في عام 2014، داهمت جماعة تابعة للدفاع الوطني منزل عمتها في حماه عند الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، وقامت باعتقال ابنتها صبا (24 عاماً)، وهي طالبة حقوق، من دون معرفة الأسباب. تقول: “كُنا نزور الفروع الأمنية ويقولون لنا إنها غير موجودة. وهناك من استغل وضع عمتي وقلقها على ابنتها وطالب بمبالغ كبيرة بحجة أنه يعرف أين تتواجد، وهناك من كان يبتزّهم بمعلومات مزيفة، وعلى مرّ السنوات كنا نتلقى رسائل من حسابات مجهولة تخبرنا بأنها قُتلت، وحتى هذه الساعة نحن لم نتلقَّ أي معلومة عنها، كما لم نشاهد أي اهتمام من قبل الجهات المعنية”.
ووفقاً لتوثيقات المرصد السوري، بلغت حصيلة حالات الاحتجاز التَّعسفي والتغيب القسري للمرأة منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، نحو 155 ألف حالة، وهي إحصائيات أصدرها المرصد السنة الماضية في مثل هذا الوقت تماماً.
المعارضة ليست أفضل
انضمت صفاء طه (20 عاماً) من إدلب، وهي المديرة التنفيذية لرابطة نساء الخضراء، إلى تنسيقيات الثورة عام 2011، وبقيتُ على هذا الحال حتى سيطرة فصائل المعارضة على إدلب، ما أجبرها على خوض سلسلة تجارب نزوح وصلت بها إلى الرقة، بسبب سياسة التضييق والقوانين التي كانت تفرضها الفصائل التي تلغي وجود المرأة.
تُعدّ مشاركة المرأة في مناطق الحكومة السورية ضعيفةً، إذ تمّ حلّ الاتحاد النسائي العام عام 2017، فيما تضاءلت نسبة تمثيل المرأة في مجلس الشعب
تقول: “كنا لا نستطيع الخروج للتسوق براحتنا أو من دون أن يرافقنا أحد من محارمنا، فجبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً)، كانت تطبق فتاوى على النساء لا أصل لها. كنت أشعر بأننا نعيش في سجن، ما دفعني إلى النزوح من إدلب إلى الرقة وأسست رابطة نساء الخضراء بالتعاون مع مجموعة من نساء إدلب النازحات”.
بدورها، تتحدث عائشة من إدلب (30 عاماً)، والتي نزحت إلى الرقة أواخر العام المنصرم 2021، عما تعرضت له من كلام مهين من قبل مجموعة من النساء اللواتي يعرفن “بالحسبة” فقط، لأنها كانت تقف مع جارها في الشارع. تقول: “كنا نتحدث أنا وجاري عن انقطاع التيار الكهربائي لثلاثة أيام متتالية، ومرت مجموعة من النساء وبدأن يستفسرن عن الرجل وما الرابط الذي يربطني به. إحداهن بصقت في وجهي وأخرى كانت تُسمعني كلاماً محرجاً للغاية أمام جاري. كنّ يتدخلن في كل شيء، حتى في الثياب والحجاب”.
ويتركز عمل “الحسبة”، أو ما كانت تُعرف سابقاً باسم “سواعد الخير”، ثم “مركز الفلاح”، الذي يتخذ من “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” شعاراً له، على منع الاختلاط بين الجنسين، ومنع “المنكرات” والمجاهرة بها، ومنع وجود امرأة من دون محرم مع طبيب، ومتابعة حالات التبرج، والعديد من الأمور التي تندرج في هذا السياق.
وأدانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، في أيار/ مايو 2020، الممارسات المتشددة التي تقوم بها هيئة تحرير الشام وذراعها مركز الفلاح، والتي تُعدّ “انتهاكاً لأبسط معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي ينص بشكل واضح على حرية الحركة واللباس والتنقل”.
كانت عائشة تتحدث مع جارها عن انقطاع التيار الكهربائي لثلاثة أيام متتالية، ومرت مجموعة من نساء “الحسبة” وبدأن يستفسرن عن الرجل وما الرابط الذي يربطها به. إحداهن بصقت في وجهها وأخرى انهالت عليها بكلام جارح ومهين
وتنقسم السيطرة في الشمال السوري بين “هيئة تحرير الشام” مع وجود حكومة الإنقاذ في إدلب، و”الجيش الوطني السوري” التابع لتركيا، مع وجود “الحكومة السورية المؤقتة” في ريف حلب.
تروي شمس عنتر (50 عاماً)، المقيمة في مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا، عمّا تعرضت له من مضايقات.
وتقول: “تم اعتقالي لساعات في أثناء وجودي في آخر اعتصام نظمته للمطالبة بالكف عن تجنيد القاصرات، وتلقيت تهديداً مباشراً وتم خلع كتفي في أثناء سحبي من بين المعتصمين، ثم وصلتني رسائل تهديد إلكترونية. الجهة التي اعتقلتني تابعة للإدارة الذاتية، وكنت قد تلقيت تهديداً مباشراً من الآسايش خلال وجودي داخل سيارتهم، وبعد أن تركوني عدت إلى المنزل ولم أتجرأ على الذهاب إلى طبيب بسبب الخوف الذي انتابني” .
تُعد المرأة من أبرز الخاسرين في هذه الحرب الطاحنة التي أتت على الأخضر واليابس، ووثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ انطلاقة الثورة السورية في 15 من آذار/ مارس 2011 وحتى الأول من آذار/ مارس 2021، مقتل 13،843 مواطنةً فوق الـ18 سنةً، وساهمت كُل الأطراف في هذا الواقع من دون استثناء.
ووفق إحصائيات الأمم المتحدة، واجهت 82 في المئة من النساء، تحديات من حيث النقل ووجود مرافق للأطفال، وواجهت 55 في المئة منهن مشكلات متعلقةً بانعدام الأمن، بينما واجهت 43 في المئة تحديات متعلقةً بظروف العمل، والالتزامات العائلية بنسبة 39 في المئة، والعادات الاجتماعية والثقافية بنسبة 30 في المئة.
رغد المُطلق _ رصيف 22