يكثر بين السوريين اليوم أولئك الذين يتذكرون بحسرة السنوات التي سبقت عام 2011م، وهي السنوات التي يطلق عليها بعضهم “الزمن الجميل”، وهو حقا “زمن جميل” مقارنة بينه وبين السنوات السابقة التي مررنا بها قتلا وتشريدا ودمارا، وهو أيضا “زمن رخاء” قياسا بمرارة اللجوء لمن هرب من البلاد خوفا من النظام القمعي، أو بالواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه أهلنا في المناطق السورية، وخصوصا في المخيمات.
لكن مقارنة حالنا اليوم بوضعنا في السنوات التي سبقت الثورة مقارنة مجحفة، لأنها تنطلق من الموازنة بين وضع سيئ ووضع أسوأ أجبرنا عليه عنف النظام وهمجيته، وتدميره التجمعات البشرية. وبسبب هذه المقايسة توارى العامل الاقتصادي الذي كان أحد أسباب اندلاع الثورة، بل إن المقارنة الخاطئة أدت إلى ترسيخ الاعتقاد بأنه غير موجود.
حظيت العوامل الإيديولوجية والطائفية بالكثير من التنظيرات والتحليلات، حتى بدا أنها العامل الوحيد وراء اندلاع الثورة، وفي حمى الصراع السياسي، وتصاعد الحديث الطائفي، توارى البعد الاقتصادي فلم يجد الصدى الذي يستحقه في التنظيرات والتحليلات التي تناولت “القضية السورية”، إلا من زاوية الحديث المكرر عن نهب الاقتصاد السوري من قبل الطغمة الحاكمة، دون أن يتابع المنظرون نتائج هذا النهب، وأثره في تعطيل التنمية والمشاريع الاقتصادية، وما يمكن أن تحدثه تلك المشاريع من انعكاسات إيجابية على حياة المواطنين. وعزز من هذا الغياب السردية الثورية التي كرسها جمهور الثورة، والتي تقول إن الثورة السورية هي ثورة كرامة لا ثورة جياع. وهي سردية نابعة من الأنفة السورية أو “العربية”
المعتادة، ومن الرغبة بالإيحاء أن الثورة قامت من أجل حاجات عليا، لا من أجل الخبز، بمعنى أنها ثورة انطلقت من أجل غايات تقع في قمة هرم ماسلو لا في أدناه.
التنظيرات السابقة التي أشرت إليها تنظيرات تنطلق من زاوية إيديولوجية، ولكنها قلما سألت “السوري العادي” عن الأسباب التي جعلته يقف مع الثورة، أو يناصرها، أو يقف ضدها. فالسوريون أناس غير مؤدلجين عموما، فالذين ناصروا الثورة منهم فعلوا ذلك لأنهم يريدون حياة أفضل، ولأنهم يريدون أن يشاركوا في الثروة، في حين أن أولئك الذين وقفوا في مواجهة الثورة كانوا يعتقدون أن حقوقهم في الثروة ستضيع في حال نجاح الثورة، سواء من خلال الامتيازات الطائفية لدى فئات معينة، أو من خلال الامتيازات الاقتصادية لدى فئات أخرى. وفي كلا الطرفين، كان العامل الاقتصادي هو المعيار في الوقوف إلى جانب الثورة أو ضدها.
حظيت العوامل الإيديولوجية والطائفية بالكثير من التنظيرات والتحليلات، حتى بدا أنها العامل الوحيد وراء اندلاع الثورة، وفي حمى الصراع السياسي، وتصاعد الحديث الطائفي، توارى البعد الاقتصادي فلم يجد الصدى الذي يستحقه في التنظيرات والتحليلات
لم يكن للعامل الإيديولوجي، إذن، ذلك التأثير الكبير في لحظة قيام الثورة. فالوضع الاقتصادي الصعب هو ما دفع الناس للخروج إلى الشوارع والساحات، وهو ليس عيبا كما يتوهم البعض، فالثورة الفرنسية خرجت تطالب بالخبز فقط دون أي شعار آخر، ولكننا نراها اليوم من أعظم الثورات في العالم. ولا يجب أن نخجل حين نقول إن السوريين كانوا فقراء وكانت حياتهم قاسية. هذه حقيقة يجب أن نقر بها. وحين خرجوا للثورة، فإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا من خلال وسائل الإعلام المستوى المعيشي اللائق الذي تعيشه دول أخرى، فأرادوا أن يرتقوا بحياتهم إلى ذلك المستوى. لقد كانوا يبحثون عن أمور هي مسلمات لدى مواطني دول أخرى: العمل، السكن، التأمين الطبي، التأمين الاجتماعي…إلخ.
وإضافة إلى النهب المنظم، كان لدينا أيضا سوء إدارة النظام للموارد. فالنظام لم يكن يتعامل مع سوريا إلا بوصفها مزرعة ليست له، ولا تعنيه إلا بمقدار ما تدر عليه المال، ولم يكن معنيا بالحفاظ على الثروات البشرية والطبيعية للبلد، حتى من أجل استدامة النهب الذي كان يمارسه. وقد أسهمت السياسات النيوليبرالية التي انتهجها النظام في العقد الذي سبق الثورة في ازدياد حدة التفاوت الطبقي سواء داخل المدن بين أحياء غنية وأخرى فقيرة، أو بين المدن والأرياف.
على خلاف النظرة السائدة لدى السوريين، فإن سوريا ليست بلدا كثير الموارد، فالمساحات الزراعية كانت تتناقص بسبب دورة الجفاف التي بدأت منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها في العقد السابق للثورة، الأمر الذي جعل مئات الآلاف من العاملين في المجال الزراعي عاطلين عن العمل، ودفعهم للهجرة الداخلية على أطراف المدن الكبرى، وفي مقابل تقلص المساحة الزراعية كان عدد السكان يزداد باستمرار، فسوريا من أكثر الدول من حيث معدلات الزيادة السكانية، فبحسب المكتب المركزي للإحصاء، فإن عدد سكان سوريا بلغ في آخر إحصاء للسكان عام 2004م ما يقارب 18 مليون إنسان، في حين أنه وصل هذا العام بحسب التقديرات إلى أكثر من 27 مليون (يشمل اللاجئين خارج البلد أيضا).
لم يترافق ازدياد عدد السكان في سوريا مع ازياد المساحات المخصصة للسكن، لأن النظام تخلى عن دوره في التنظيم، وترك الأمر للفوضى، فظهرت الأحياء العشوائية وتكاثرت، وكان هذا على حساب المساحات الخضراء المحيطة بالمدن، إذ تقلصت مساحة غوطة دمشق إلى حد أنها لم تعد موجودة، أما منطقة وادي الفرات فتعاني زحف البناء، على نحو يمكن القول معه إن وادي الفرات لم يعد واديا زراعيا بمقدار ما أصبح واديا للسكن.
في مقابل هذا الجفاف، وازدياد عدد السكان، لم يكن لدى النظام أي خطة حتى لترشيد استهلاك الموارد الموجودة، فالعقلية الجمعية التي تحكم سلوك النظام والمجتمع السوري، هي عقلية تقليدية ذات منشأ ديني، ترى أن نواميس الكون كفيلة بإحداث التوازن، وأنه ما من داع للتخطيط، يعزز ذلك ذهنية قومية كانت ترى في الزيادة الديمغرافية عنصرا من عناصر التفوق. هكذا تحولت المدن السورية قبل الثورة إلى تجمعات سكانية هائلة تكاد تنفجر من حجم الكثافة السكانية فيها، كما أن القرى اتسعت، ولم يعد من الممكن تبين الحدود الفاصلة بينها. وسط هذا الجو الخانق كان السوريون يعانون كثيرا في تدبر أمور معيشتهم، وكانت حياتهم الاقتصادية تعتمد على الورش والمصانع الصغيرة، في ظل مجتمع كانت الزراعة تتناقص فيه باستمرار، ولم يتحول إلى مجتمع صناعي قادر على استيعاب الطفرة السكانية.
لهذا كانت الثورة بمعنى من المعاني ثورة العاطلين عن العمل، ثورة المحرومين في الأرياف البعيدة، ثورة الطبيعة المستنزفة على البشر الذين أهملوها، فلم تعد البيئة السورية قادرة على احتمال استنزافها أكثر مما سبق، إذ تحولت سوريا على سبيل المثال إلى دولة فقيرة مائيا.
مع الاحترام الكبير للسردية التي تكرست في السنوات الماضية التي تقول إن ثورة السوريين كانت ثورة كرامة لا ثورة خبز، ثورة مواجهة قوى الأمن لا ثورة البحث عن الحياة الأفضل، فإن الواقع السوري يقول غير هذا. مشكلة الثورة السورية أنها لم تعبر عن نفسها باللغة الصحيحة. لم يكن هذا خطأها، فقد أُريد لها أن تتحول إلى المسار الذي أدى بها إلى واقعها المر الذي تعيشه الآن.
سليمان الطعان _ تلفزيون سوريا