هي المرة الثانية، التي يرتد فيها سعر صرف الليرة السورية إلى أدنى مستوى مبيع له، منذ نحو عام، خلال ثلاثة أسابيع منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وقاومت الليرة عوامل الانهيار، وتذبذبت، لتشطب جانباً كبيراً من خسائرها أكثر من مرة، قبل أن تخسرها مجدداً. ومساء الأربعاء 16 آذار/مارس الجاري، سجلت 3960 ليرة سورية للدولار الواحد. وهو أدنى سعر مبيع مسجل لليرة السورية مقابل الدولار في دمشق، منذ 29 آذار/مارس من العام الفائت.
لطالما رفض محللون موالون القبول بسعر صرف السوق السوداء كمعيار أو مؤشر لتغيّر القيمة الحقيقية لليرة، بوصفه خاضعاً لعوامل المضاربة والتذبذب اليومي. وكانت التهمة جاهزة لتجار السوق السوداء بوصفهم المتحكمين بسعر صرف تلك السوق، مما يجعلها معياراً غير نزيه، لتوصيف حال الليرة السورية. وفي عهد حاكم مصرف سورية المركزي السابق، حازم قرفول، كانت متلازمة “سعر الصرف الوهمي” التهمة التي يتم إطلاقها دوماً على سعر صرف السوق السوداء. لكن، يندر أن يتطرق أحد إلى سعر “دولار الذهب”، ذاك السعر المخفي داخل تسعيرة الذهب الرسمية التي تصدر بصورة شبه يومية عن جمعية الصاغة بدمشق.
وللتوضيح، فمصطلح سعر “دولار الذهب”، ليس مصطلحاً رسمياً، لكنه يُعتمد من بعض المشتغلين في قطاع الصاغة (الذهب) في سوريا، لتوصيف سعر الدولار المُعتمد من جانب جمعية الصاغة في دمشق. والأخيرة، نقصد بها، الجمعية الحرفية للصياغة وصنع المجوهرات في دمشق (تُدعى اختصاراً – جمعية الصاغة في دمشق)، وهي جمعية حرفية خاضعة لسيطرة النظام، مهمتها تنظيم قطاع الصاغة في دمشق، وإدارة علاقته مع مؤسسات “الدولة”. ولها جمعيات نظيرة في كل المحافظات (حلب، حمص، حماة.. إلخ). لكن جمعية الصاغة في دمشق، هي الأهم، بوصفها المسؤولة عن تحديد تسعيرة الذهب الرسمية الصادرة ظهيرة أيام (السبت، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس)، من كل أسبوع.
وتحدد الجمعية تسعيرة الذهب الرسمية بالاستناد إلى عاملين: السعر العالمي لأونصة الذهب (الأوقية) صباح كل يوم. وسعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار. وذاك الأخير هو ما يُوصّفه البعض بـ سعر “دولار الذهب”. وقبل بدء مسيرة تهاوي سعر صرف الليرة السورية منذ نهاية العام 2011، لم تكن هناك أية مشكلة في تحديد سعر “دولار الذهب” من جانب جمعية الصاغة. إذ كان سعر صرف الليرة مستقراً نسبياً، ولا يتعرض لتذبذب شبه يومي. لذا، كانت تسعيرة الذهب الرسمية تستند أساساً إلى معيار سعر الأونصة العالمي، اليومي.
لكن، ومنذ بدء مسيرة انهيار سعر صرف الليرة السورية، بدأت سلطات النظام تضغط على جمعية الصاغة -والتي من المُفترض أنها تمثل مصالح العاملين في قطاع صناعة وبيع الذهب- كي تحدد تسعيرة رسمية للذهب، لا تكشف السعر الحقيقي لصرف الليرة مقابل الدولار. فكانت الجمعية تضطر لإصدار تسعيرة غير واقعية، دفعت في سنوات لاحقة (بين عامي 2013 و2017) إلى فلتان سوق الصاغة واعتماد بائعي الذهب على أسعار آنية للذهب وفق سعر الصرف، من دون الالتزام بالتسعيرة الرسمية الصادرة ظهيرة كل يوم. لكن، منذ العام 2018، بدأت الجمعية، بدعم حكومي، تعمل على لملمة شتات سيطرتها مجدداً على هذا القطاع الاقتصادي الحيوي في البلاد، فتشددت في ضرورة الالتزام بالتسعيرة الرسمية، عبر إنذارات شبه يومية، توجهها للصاغة عبر معرّفاتها الرسمية، وفي الوقت نفسه، أتاحت لهم هامشاً متمثلاً بما يُعرف بـ “أجرة الصياغة”، إذ سمحت أن تكون هذه الأجرة نتاج اتفاق بين البائع والزبون، مما يسمح للبائع أن يرفع هامش تلك الأجرة، بصورة تحقق له الوصول إلى السعر العادل للذهب، ما دامت التسعيرة الرسمية غير واقعية، نظراً لاستنادها لسعر صرفٍ غير واقعي.
في السنتين الأخيرتين، حاولت الجمعية تعزيز سيطرتها على سوق الصاغة أكثر، عبر الاقتراب بصورة أكبر من سعر الصرف الواقعي، بتسعيرتها الرسمية. وبذلك أصبح سعر الدولار –”دولار الذهب”- الذي تعتمده في احتساب التسعيرة الرسمية أقرب أكثر إلى سعر السوق السوداء. وفي بعض الحالات، في السنتين الأخيرتين، طابقه، وفي حالات أخرى، تجاوزه أيضاً. وبذلك، كان سعر “دولار الذهب” مؤشراً لاعتراف جمعية تتبع لسيطرة النظام، بسعر السوق السوداء، الذي بقيت الجهات الرسمية الأخرى تسميه بـ “الوهمي”.
لكن، للأمانة، ومنذ تولي عصام هزيمة، موقع حاكم المصرف المركزي، قبل عام تقريباً، غابت متلازمة “سعر الصرف الوهمي” عن الإعلام الرسمي وعن تصريحات مسؤولي المركزي والحكومة. لكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال، اعترافاً بصدقية سعر السوق السوداء، إذ بقيت تلك الجهات، تعمل على سحب ذاك السعر إلى مستويات أخرى تحددها، إما رسمياً (دولار الحوالات الرسمي مثلاً 2500 ليرة)، أو بصورة شبه رسمية (سعر الصرف عبر مكاتب الصرافة في نيسان/أبريل الفائت عند 2850 ليرة مثلاً).. إلخ.
ومع تردي سعر صرف الليرة السورية، مؤخراً، قد يكون من المفيد الوقوف ملياً عند تغيرات سعر “دولار الذهب”، كمؤشر. فكيف يُحتسب هذا السعر؟ يلجأ العاملون في سوق الصاغة لمعادلات معروفة لاحتساب سعر الذهب محلياً. إذ يستندون إلى تقسيم سعر الأونصة العالمي، المُعتمد، على الرقم 31.1035 –هو وزن الأونصة عيار 24-، ليحصلوا على سعر الغرام عيار 24. ومن ثم يضربون النتيجة الأخيرة بالرقم 21، ويقسمون الناتج على الرقم 24، ليحصلوا على سعر الغرام عيار 21. وهو الغرام المعياري في سوريا، الذي تُصاغ منه معظم المصوغات الذهبية. وبدرجة أقل منه، الغرام عيار 18.
حينما نحصل على سعر الغرام عيار 21 – بالدولار، يبقى أن نقسم سعر الغرام عيار 21، وفق التسعيرة الرسمية الصادرة عن جمعية الصاغة، ظهيرة اليوم نفسه، على السعر الأول (بالدولار). فنستنتج بكم احتسبت الجمعية سعر “دولار الذهب”.
إذا طبقنا تلك المعادلات لاحتساب تغير سعر “دولار الذهب”، خلال ثلاثة أسابيع منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك بالاستناد إلى التسعيرة الرسمية للذهب الصادرة عن جمعية الصاغة، سنستنتج الآتي: كان سعر “دولار الذهب” وفق جمعية الصاغة، عشية الغزو يوم الأربعاء 23 شباط/فبراير الفائت، عند 3509.5 ليرة سورية للدولار الواحد. وارتفع هذا السعر حتى يوم الأربعاء 16 آذار/مارس الجاري، ليصبح بـ 3807 ليرة سورية للدولار الواحد. أي أن “دولار الذهب” وفق جمعية الصاغة، ارتفع في ثلاثة أسابيع بنسبة 7.81%.
أما سعر دولار السوق السوداء، فارتفع من 3650 ليرة سورية للدولار عشية الغزو، إلى 3960 ليرة سورية للدولار، بعد ثلاثة أسابيع. أي بنسبة ارتفاع قدرها 7.83%.
أي أن نسبة تراجع سعر صرف الليرة السورية، وفق جمعية الصاغة، تطابق تقريباً -(بفارق 0.02%)- نسبة تراجعها وفق سعر السوق السوداء.
وبناء على ما سبق، يمكن الجزم بدِقّةِ معيار سعر صرف السوق السوداء، في تحديد نسبة تغير قيمة الليرة السورية، وتجاهل أي اتهامات له بأنه خاضع للمضاربات ولمصالح تجار، ما دامت نسبة تغير سعر الصرف –”دولار الذهب”- وفق تسعيرة الذهب الرسمية، هي ذاتها، وفق سعر صرف السوق السوداء. وذلك بإقرار غير علني، من جانب جمعية حرفية تتبع للنظام، وتلتزم بسياساته الرسمية في إدارة الاقتصاد.
إياد الجعفري _ المدن