إبَّان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، كان الخبراء الروس يروجون لنظرية مفادها أنّ الاقتصاد الأمريكي محكوم بالحرب، وأنّ النخبة الأمريكية الحاكمة معنية بافتعال ذرائع لشن الحروب بغية خلق عوامل دفع لهذا الاقتصاد، وبصورة خاصة، للشريحة التي تمثل لوبيات شركات السلاح والنفط، المتحكمة بصنع القرار بالبيت الأبيض، وفق البروباغندا الروسية في ذلك الحين. كانت تلك النظرية تلقى رواجاً كبيراً في أوساط المتخصصين والمراقبين بالشرق الأوسط. وكان ذلك مفهوماً، بطبيعة الحال؛ فواشنطن في ذلك التاريخ كانت تتبع استراتيجيات تستهدف الهيمنة “الفجّة” والمباشرة على العالم، باستخدام قوتها العسكرية الفائقة. وكان للشرق الأوسط، تحديداً، النصيب الرئيس من تلك الاستراتيجيات.
وبغض النظر، هل كانت النظرية ذاتها صحيحة، أي أن الاقتصاد الأمريكي محكوم بالحرب، أم لا.. فإن حتمية الحرب بوصفها أداةً لتعزيز الهيمنة والسيطرة الداخلية والخارجية لنخبة حاكمة ما، تبدو أنها باتت تنطبق اليوم، بصورة كبيرة، على “قيصر روسيا”، فلاديمير بوتين، وعلى حلفائه المقرّبين، وفي مقدمتهم، رأس النظام السوري، بشار الأسد.
فالأخير، هو من أبرز الفرحين بتطور التوتر على حدود أوكرانيا، إلى درجة الغزو الروسي لشرق البلاد. ذلك أن سنوات هدوء التوترات الميدانية، المعدودة، في سوريا، منذ العام 2018، كشفت عورات نظام الأسد الذي لا يتقن إلا فن الحرب وخلق الأزمات كذرائع لاستمراريته. وجَعَل الهدوء الميداني، اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرته، على شفير الانهيار، وصولاً إلى اندلاع احتجاجات “افتراضية” وميدانية، في مناطق، من المفترض أن تُحسب على أنها محايدة حياله، في أدنى الحدود، أو موالية له، في أقصاها. وبهذا الصدد، يمكن أن نذكر تصريحه الشهير قبل ثلاث سنوات، حينما برر التدهور المعيشي في مناطق سيطرته بأنه نتيجة انقطاع “الدولار” الذي كان ينسل من “المناطق المحررة” في سنوات الحرب، والذي كان أحد عوامل صمود اقتصاده المشوّه، حينها.
يحِنّ الأسد، اليوم، إلى تلك الساعات، التي كانت فيها حاضنته متماسكة وملتفة حوله، والخشية من الآخر تسيطر على تفكيرها، ومخاوف خسارة مكاسب غير مبررة، تجعل كبارها يدفعون بأبنائهم إلى ساحات القتال، ذوداً عن الأسد، مهما كان حجم التضحيات جسيماً. فيما اليوم، توجه الحاضنة ذاتها سهامَ الانتقاد بمستويات مختلفة، لإدارته الخرقاء للاقتصاد، التي أودت بغالبيتهم إلى براثن الفقر المدقع.
لذلك يمكن تفهُّم مسارعة الأسد إلى إبداء الاستعداد للاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين بشرق أوكرانيا؛ فأزيز الرصاص في تلك البقعة البعيدة قد يتردد صداه سريعاً على تراب الجغرافيا السورية. وقد كان الشهر الأخير حافلاً بالمؤشرات على ذلك. تحرش روسي جريء بالطائرات الأمريكية، واختراق غير مسبوق للمجال الجوي لمنطقة التنف. ومناورات جوية روسية – أسدية، على تخوم الجولان المحتل. ومناورات روسية ضخمة بشرق المتوسط انطلاقاً من قاعدة حميميم قرب اللاذقية. دون أن ننسى المناورات البرية في دير الزور. وبالتوازي مع كل ما سبق، ترسل موسكو إشارات تحذير مباشرة، بأن التوتر الروسي – الأمريكي في أوكرانيا، سينعكس على مصالح إسرائيل، التي تحظى بضوء أخضر روسي لاستهداف القواعد الإيرانية في سوريا.
حليفة الأسد المقرّبة، إيران، هي أيضاً من الفرحين بقرع طبول الحرب في أوكرانيا. فذلك يدفع موسكو أكثر نحوها، ويعزز أوراق مساومتها في مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي. دون أن ننسى انعكاسات تسخين جبهات بسوريا، على تعزيز إيران لدورها هناك، مجدداً.
وبقدر ما يبدو فيه الأسد وحليفته الإيرانية، محكومين بالحرب، كوصفة ناجعة لتعزيز أدوارهم.. نجد أنَّ بوتين ذاتَه، يعاني من المعضلة ذاتِها؛ فرغم مضي أكثر من عقدين على حكمه لروسيا، لم يستطع “القيصر” أن يحقق إنجازات اقتصادية أو ثقافية أو علمية، تجعل روسيا جذّابة لجيرانها المقرّبين منها، بصورة تقضي على مطامح شعوب الاتحاد السوفييتي السابقة، بالانضمام إلى ركب الغرب، الجذّاب، بكل ما فيه.. وذلك رغم أواصر الصلات العِرقية والثقافية والتاريخية، التي تربط تلك الشعوب، بالشعب الروسي. فقط، قوة السلاح، والنخب الديكتاتورية الحليفة، والفاسدة، هي التي أبقت على نفوذ روسيا في محيطها الحيوي، الذي كان يوماً ما، محكوماً بالمطلق، من موسكو. وحينما تنهار نخبة ديكتاتورية حليفة لـ بوتين، كما حدث في أوكرانيا عام 2014، تصبح الحرب هي اللغة الوحيدة التي يستطيع بوتين أن يتكلم بها. فالرجل الذي بنى شعبيته الداخلية على مدار أكثر من عقدين، على مقولة إعادة إحياء أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق، لم يُولِ يوماً قيمةً للقوة الناعمة، من اقتصاد وثقافة، تلك التي كان السوفييت يوماً، يراهنون عليها. وهو لا يستطيع ذلك حتى لو أراد؛ ذلك أنَّ نخبته الحاكمة، بطبيعتها المافيوية، لا تتقن إلا فنون خلق الأزمات كذرائع للاستمرار في الحكم، على غرار تلك النخبة الحليفة له، في دمشق.
إياد الجعفري _ المدن