يبقى السؤال المهم: هل من إمكانية للتوفيق بين الفردانية وتبعاتها، والمجتمع الأبوي ومعاييره؟ وما هي الطرق المساعدة على ذلك؟
من المفاجآت غير السارّة للاجئ السوري إلى المجتمع الأوروبي، انتقالُه من مجتمع أبويّ، تتحكَّم المؤسسات الأبوية المجتمعية في معظم خيارات الأفراد، إلى مجتمعٍ جديد، عمادُه الفردانية، ومؤسساتها التي طورها هذا المجتمع الجديد، عبر عشرات السنين، لتغدو هي الأكثر حضوراً في حياة أعضاء المجتمع الأوروبي.
تساعدُ هذه الفردانية، بصورها الأوروبية، في تنمية غربة اللاجئ المكانية، وتجعل أشواقه لوطنه الأم، وحنينه دائم الازدهار، مترافقاً مع اضمحلال دور المؤسسات الاجتماعية المؤثرة التقليدية في المجتمع الجديد. وفي الوقت نفسه تقلّلُ تلك الفردانية المنظمة من شعور اللاجئ بقوته الفردية الفطرية، بصفتها حالة اعتداد متمردة، أو إعلان سلطة بمفهوم الأثر، لتقوده إلى العيش في كنف الفردانية بصفتها حالة تنظيم، وحرية، ومساواة، ناجمة عن تطور عميق، في المجتمع الجديد، الذي لم يشارك اللاجئ الجديد ببنائه، وليس على اطلاع كاف بتفاصيله وتاريخه وسيرورته. وها هو اليوم قد لجأ إليه ليتحمل تبعات عاداته وتقاليده وفردانيته، وبالتأكيد سيتنعَّم برعايته الاجتماعية والحياتية.
هذا التجاذب، الذي يعيشه اللاجئ الجديد، يوقِعه في حالة من عدم التوازن، بل قد يعيش صراعاً شديداً بين حقبتيْن من حياته، خاصة أولئك الذين عاشوا مراحل طويلة من عمرهم، في المجتمع الأبوي التراتبي السابق، وينمّي هذا الظرف الانتقالي صعوبة اندماج ذلك اللاجئ المسنّ في المجتمع الجديد، ويراكم أوجاعاً، لا يعيشها الأطفال أو الشباب اللاجئون، الذين وجدوا في المجتمع الجديد الكثيرَ مما يلائم أعمارهم، أو يحقق أمنياتهم، فيما يبقى كبارُ السن من اللاجئين منشغلين بحروب لحظيّة مع ذواتهم، وما يعيشونه، منبعُ معظمها ذاكرتُهم وتجاربُهم السابقة. وهذا يولّدُ شريحة من أولئك اللاجئين تعيش بقية حياتها، بصورة أو بأخرى، متلبسة دور (الضحية)، ضحية ذاكرتها وذكرياتها، ليسوا بقادرين على الانفكاك من الماضي، أو الاستمتاع باللحظة الحاضرة، أو الانطلاق نحو مستقبل، صار وراءهم! كأنهم جالسون على “جسر غودو” في انتظار ما لا ينتظر!
كيف يقدِّم هذا اللاجئ نفسه أنه ضحية للفردانية في المجتمع الجديد وحكاية لجوئه ذاتها تتضمن لحظات وخطوات “بحث عن خلاص فردي”؟ مع إقرارنا بأنه غالباً لم يختر الهجرة أو اللجوء، بل أُجْبِرَ عليه، وفرض عليه ليكون حاجة وخلاصاً، وقد سبق أنْ شاهد بعينيْه أنَّ الحل الجماعي، أو الثورة السورية بصفتها حالة التحام، لم تنجح في بلده الأم!
يدركُ ذلك السوريُّ اللاجئ (مثلاً)، أنَّه ما كان له أنْ يخرج متظاهراً، ثائراً، لو بقي ينصتُ إلى صوت القوى الاجتماعية التقليدية
كيف سينسجمُ هذا اللاجئ مع قمة من قمم الحياة الفردانية، كما هي الحالة في هولندا مثلاً، بحيث تكون نهج مجتمع في كل مناحي الحياة، لا بد أن يأخذ به هذا اللاجئ، كي لا يلفظ خارجه! شتان بين أن تكون الفردانية خياراً فردياً، وأن تكون ضريبة للجوء نتيجة الحرب!
يدركُ ذلك السوريُّ اللاجئ (مثلاً)، أنَّه ما كان له أنْ يخرج متظاهراً، ثائراً، لو بقي ينصتُ إلى صوت القوى الاجتماعية التقليدية، التي، لن تسمحَ له بأنْ يخرج ضد النظام السائد، في الأحوال الطبيعية، بعيداً عن مرحلة الثورة، أو سيسمح له بأن يكون حراً في تنفيذ خياره الفردي. الثورةُ وحدها سمحتْ له أن يخرج عن أثواب الجماعة العائلية والدينية والاجتماعية، بل إنَّ الجماعة حين شعرتْ أنَّ الفرد سيكسرُ حدودها؛ خرجتْ معه، في لحظة تاريخية من النادر أن تتكرر – كما مرحلة الربيع العربي- إذ أصبحت حاجة الفرد والجماعة متعاضدة، متكاتفة، وتقاطعتْ خياراتُ عددٍ كبير من الأفراد مع خيارات الكثير من المؤسسات التقليديّة الأبوية، فاندمجا معاً، في لحظة تحقق، قليلة الحضور.
لجوءُ من تجاوز سنّ الأربعين أو قبلها، مثلاً، في أحدِ وجوهه، حالةُ خلاص اضطراريّة من عجز الأوطان عن حماية الأفراد، وتأمين لقمة العيش والشعور بالأمان لهم، حيث يقومون بذلك اللجوء، استجابة منهم لفكرة متجذرة في تاريخ الأفراد: لا بدّ من تغيير الأماكن إنْ سُدَّتْ في وجهك أبوابُها، أو ضاقت أنفاسُك في المدينة الكبيرة، ولا بدَّ من البحث عن مجالات جديدة في الحياة، كما يحدث مع من يقيم في إسطنبول حين يبحث عن أفق جديد في لندن أو في الدوحة أو أمستردام أو أميركا!
تبدو فكرةُ الفردانيّة، بين تجربتيْ الجالية السورية في كلٍّ من تركيا وأوروبا، مختلفة اختلافاً كبيراً، لأنَّ إمكانية سيطرة الفردانية في تركيا محدودة، وقيم المجتمع تعيش بين تخوم الفردانية وسلطة المؤسسات التقليدية، لذلك يبقى جزءٌ كبير من حياة اللاجئ السوري في تركيا متاحاً للجماعة، التي تتفنَّن في إطلاق الأحكام عليه، ووضع حدود لسيرورة سلوكه وحياته، في أوروبا، منظومة الحياة والدولة ومؤسساتها كلها تحدّدٌ مساراتها الفردانية، بل إنَّ الفرد متى ما شعر نفسه أنه أسير سلطة الجماعة، أو أنها تحاول تقييده، سيجد عدداً من المنظمات وأرقام التلفونات ومؤسسات الحماية، التي تنتشله وتحميه من سلطة المجتمع الأبوي!
بعد اللجوء، في لحظة تعزية للذات، ومصالحة معها يقول الآباءُ والأمهاتُ: اخترنا اللجوء ليس بصفته خياراً فردياً، بل كي ننقذَ جماعة صغيرة (هي العائلة) استجابة للدور المنوط بالوالدين في المؤسسات التقليدية الأبوية في المجتمع القديم، ويعيش كلٌ منهما، فترة طويلة في بلدان اللجوء، متوجهين إلى أطفالهم في كل لحظة فشل، أو حنين أو تمرد، يقوم الأولاد به: أتينا إلى هذه البلاد من أجلكم، أيها الأولاد العاقون.
يبدأ ذلك اللاجئ، الذي كان يتذمر من الفردانية في المجتمع الجديد، بعد فترة قصيرة، بتذوق طعم جماليات الفردانية، ها هو يقضي معظم وقته مع أولاده، قد يلبس جاكيتاً أحمر، دون أن تنظر إليه زوجته شزراً، أو يتأخر في نومه صباحاً، بل إن الزوجة قد تطلب الطلاق من زوجها، دون أن تلقى في الشارع، بل تأخذ نصف أموال زوجها قانوناً، وقد يطلب الطفلُ الشرطة لأبيه، إنْ ضربه ضرباً مبرحاً. وهكذا يبدأ الفرد، أولاً بأول، استعادة ذاته من الإكراهات الاجتماعية التقليدية، عبوراً إلى الفردانية، وبما أنه عديم تجربة وخبرة بها، فقد يتطرف في الإفادة منها، أو يسيء، أو يتفنَّن في الانتقام!
في حوارات مع عدد من المعنيّين بسياسة اللجوء والهجرة في هولندا، حول الكفاءات القادمة ضمن المجتمع السوري وضرورة الأخذ بيدها، وتأمين فرص عمل لها، من قبل البلديات بصفتها مؤسسات أبوية راعية، اكتشفنا بعد فترة أن جيوب البلديات خاوية! وعلى الأفراد أن يجدوا فرصهم بأنفسهم. ومهمة البلديات الرئيسية تجاههم هي تأمين الدعم لهم، وتقوية اختصاصاتهم، وتقديم دورات وتعليم لهم، بمعنى ما، مهمة البلديات: أنْ تعلمهم صيد السمك! لا أنْ تقدمَ لهم السمك جاهزاً، وفقاً للمثل الإنكليزي، وقيل لنا حرفياً: الدولة الهولندية لا تحتاجُ إلى كفاءات علمية كبيرة، أو قوى تفكير، بل تحتاج معامل هولندا إلى يد عاملة! ويظن كثير من اللاجئين السوريين، بداية، أنَّ هذه الإجابة القاسية، موجهة ضدهم، بصفتهم لاجئين، لكنْ أولاً بأول يكتشفون أنَّ تلك ثقافةٌ وحاجةٌ ملحة في المجتمع الهولندي، لذلك يذهبُ للدراسة المهنية الثانوية وما بعدها نحو 70 في المئة من الشباب والصبايا الهولنديين، بل إنَّ التحصيل المادي للكثير من المهن مثل (صرف صحي- كهربائي- ميكانيكي- نجار) أفضل مما يحصِّله المدرس والموظف بأضعاف. ويترافق ذلك مع توعية وشرح بأنَّ من يختار طريقاً سيكون مسؤولاً عن خياره، ومن يريد أن يصرف الكثير من عمره، ليدرس طبيباً أو أستاذاً جامعياً يمكنه ذلك، لكن طريقه طويلة!
كأن المجتمع الهولندي العجوز يقول للمتفوقين: بنيتُ الدولة، ولستُ بحاجة شديدة لمفكرين بقدر حاجتي لعمال
من جهة أخرى، يُلحظُ أنه تمَّ تكييفُ نمط الدراسة في هولندا لينسجمَ مع الفردانية وألا يزعجها، فألغى النظام التعليمي روح التنافس، وحمولاته النفسية كي يبقى الفرد مرتاحاً من حكاية النجاح، والرسوب، وصارت درجة 55 بالمئة هي درجة النجاح الذي يشاد به ويكتفى، بل إنَّه ممنوع على المدرس إعلان علامات الطلاب أمام الآخرين، الذين يهتم كل منهم بشؤونه الخاصة، فالتفوق في الدراسة شأن فردي، وليس خياراً موجهاً لتحريض الجماعة أو الآخر أو تكسيره!
كأن المجتمع الهولندي العجوز يقول للمتفوقين: بنيتُ الدولة، ولستُ بحاجة شديدة لمفكرين بقدر حاجتي لعمال، وهذه الفلسفة هي على العكس من ثقافة المجتمعات النامية، خاصة ذات الطابع الأبوي، أو الشرقية عامة، التي تقوم على التنافس، وتمجيد التفوق، وهذا يولِّدُ مشكلات لا تنتهي بين الآباء اللاجئين، ضحايا الذاكرة السابقة، وأبنائهم الذين غدوا جزءاً من المجتمع الجديد، ولم يعد يهمهم كثيراً مفهوم التفوق القديم!
يبقى السؤال المهم: هل من إمكانية للتوفيق بين الفردانية وتبعاتها، والمجتمع الأبوي ومعاييره؟ وما هي الطرق المساعدة على ذلك؟
احمد جاسم الحسين _ تلفزيون سوريا