لم يكن اللجوء حلًا متكاملًا لحياة ورديّة أملت بها الأسرة السورية الهاربة من جحيم الحرب؛ حيث تعرضت الأسر لتحدياتٍ ناجمةٍ عن فروقات بمفاهيم الثقافة المجتمعية والقانونية، فلم تستطع تقبّلها واجتيازها، ونجم عن ذلك مشكلات داخل العائلة الواحدة، تفاقمت حدتها وصولًا إلى انفصالٍ بين أسس تلك “العائلة” أو المنظومة الأسرية، كما نعرفها في مجتمعنا العربي.
ما تجب الإشارة إليه، في هذا الخصوص، هو أن الانفصال أو الطلاق فعلٌ مباح في قانون الأحوال الشخصية السوري الذي يحكم العلاقات الأسرية تبعًا للشريعة الإسلامية، وقد وُضعت له نصوص نظمته، من حيث الأسباب والمبررات والنتائج، وإن كان هنالك اختلاف في الآراء حول مدى عدالتها، بالنسبة إلى حقوق الزوجة، وهناك مطالبات محقة من منظمات المجتمع المدني بتعديل تلك القوانين.
في العام 2010، بلغت نسبة الطلاق حوالي 25% في عموم سورية، وكانت هذه النسبة تعدّ مرتفعة في ذلك الحين، قياسًا إلى العقود التي سبقتها، عندما كان مجتمعنا السوري بشكل عام يعتبر الطلاق أمرًا معيبًا، خاصة بحق المرأة، لكن بعد العام 2011، نتيجة الحرب والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المرافقة لها، ازداد عدد حالات الطلاق، لأسباب جديدة لم تكن من قبل، كالاختلاف في الرأي السياسي، وكالهجرة بداعي الحصول على اللجوء، ومن ثم لمّ الشمل، فأصبحت حالات الطلاق حديث وسائل الإعلام المختلفة حتى إنها وصفت بالظاهرة، وخاصة حالات الطلاق بين السوريين اللاجئين في أوروبا، وأعتقد أننا لو قمنا فعليًا بعملية رصد وإحصاء، لكل تلك الحالات في كلّ البلدان التي لمت شمل العائلات السورية المهجرة، فلن نجدَ أنّ نسبَتها مرتفعة، مقابل عدد العائلات اللاجئة المستقرة في بلدان اللجوء. وهنا لا بدّ أن نذكر أن إجراءات الطلاق في الدول الغربية هي عملية معقدة، كما توصف، ومع ذلك فقد شهدت إحصائيات الطلاق والانفصال الزوجي في أوروبا، على مدى العقود الماضية، ارتفاعًا ملحوظًا، بحسب أرقام المنظمة الأوروبية للإحصاء، مع إيجاد البدائل القانونية للزواج، كالعقد المدني والحياة المشتركة التي تمنح حقوقًا للأزواج غير المتزوجين، في بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن حالات الطلاق بين السوريين اللاجئين في أوروبا ليست حالات شاذة عن طبيعة تلك المجتمعات، ولكنها تستدعي توضيح أسبابها التي كان بعضها نتيجة تراكم خلافات سابقة على الحرب واللجوء، وبعضها بسبب الواقع المستجد الذي فرض على الزوجين اتخاذ مواقف غيّرت نمط حياتهم التي كانت مستقرة ما قبل 2011، وأوقعتهم في إشكالات وصلت بهم إلى الطلاق.
إشكالية اختلاف العامل الثقافي والقانوني في تحديد مفهوم العائلة:
ثمة اختلاف جذري بين ما هو راسخ في عقلية الإنسان السوري اللاجئ، من معتقدات دينية وقانونية وعادات وتقاليد تربّى عليها وتعمل على تقييد الحرية الفردية ضمن العائلة، وبين أفكار وبنية قوانين المجتمع الغربي الجديد الذي انتقلت إليه الأسرة اللاجئة، خاصة من ناحية الحريات الممنوحة لكل فرد في الأسرة والمحمية بالقانون، حيث تتكون العائلة الغربية من مجموعة أفراد، لكل واحدٍ منهم خصوصيته وحريته الشخصية التي يجب احترامها من قبل بقية أفراد العائلة، ويصونها له ويحميها القانون. وهذا الأمر يجعل العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة في دول الغرب محددةً، ولا يحصل التداخل فيما بينها إلا بإرادة الفرد وقراره، سواء من ناحية الحقوق أم الواجبات، أما العائلة السورية فهي إطار ينصهر بداخله كلّ فرد مع بقية أفرادها، فتتقيد الحريات الشخصية، وتتداخل الحقوق والواجبات ببعضها لتؤثر في مجرى حياة الفرد حاضره ومستقبله.
هذا الاختلاف بين المفهومَين يُشكّل هوّة كبيرة، تفصل العائلة اللاجئة عن المجتمع الجديد المحيط بها، حين لا يتمكن الزوجان أو أحدهما من اجتيازها عن طريق الاندماج مع أفكار المجتمع، وحينئذ لا بدّ أن تظهر المشكلات عند أصغر خلاف بينهما، وخاصة حول المسائل الحقوقية المتعلقة بالحرية الفردية الشخصية للزوجة والأولاد، والتي قد يعُدّها الزوج أو ربّ الأسرة السوري تقليصًا لحقّه ولسلطته الأبوية كمدير للأسرة، وهو الحقّ الذي كان يميزه في مجتمعه القادم منه، ويمنحه صلاحية فرض الرأي والقرار في مصير كلّ فرد فيها، ويخوّله استخدام القوة إذا لزم الأمر. وبناء على ذلك؛ فإن هذا الواقع الجديد يتطلب الوعي من كلا الزوجين اللاجئين، والجهد المشترك، وتقديم بعض التنازلات من كليهما، للحفاظ على كيان عائلتهم، وإلا فإن الخلافات والصراع على السلطة داخل الأسرة ستؤدي إلى الطلاق حتمًا.
إشكالية اختلاف الدور الاقتصادي والاجتماعي لكلا الزوجين ضمن العائلة:
السائد في مجتمعنا السوري أن الأسرة تعتمد اقتصاديًا بشكل كامل على موارد ربّ الأسرة “الزوج”، فهو رأس المال والقوة العاملة والمسؤول أمام القانون والمجتمع عن الإنفاق، وبالتالي هو من يملك سلطة الأمر والنهي والقرار، أما الزوجة فهي -في عرف المجتمع وفي القانون والشرع- ملحقة اقتصاديًا بزوجها المكلف بالإنفاق عليها، وتظلّ مسؤولة منه وتحت جناحه، وإنْ كانت تملك مالًا أو عاملةً تتقاضى أجرًا. وليست تلك الاستقلالية في الذمة المالية التي منحها لها الشرع والقانون المدني السوري إلا ترسيخًا للسلطة الذكورية للزوج وتقليصًا للدور الاقتصادي والاجتماعي للزوجة ضمن العائلة.
هذه التبعية لا نراها اليوم في المجتمعات الغربية القائمة على المساواة في الأدوار الاجتماعية والاقتصادية بين الزوجين، أو على تحديد تلك الأدوار من قبلهما معًا، قبل الزواج. ومع لجوء العائلة السورية إلى أوروبا، أدركت الزوجة السورية حقوقها وأهمية القوة القانونية لدورها الاجتماعي والاقتصادي ضمن الأسرة التي تصونها لها قوانينُ بلد اللجوء، فبدأت تعمل وتكسب وتتخذ القرارات، كسلطة تقابل سلطة الزوج، وأحيانًا أكبر منها، في حال عملها هي وحصولها على أجر أعلى، أو في حالِ بقاء الزوج بلا عمل. هذا الواقع الجديد كان سببًا لأن تبدأ الخلافات في بعض الأسر التي يرفض فيها الزوج عمل زوجته المنافس لعمله، واكتسابها لحقّ الأمر والنهي والقرار، وليكون الطلاق بينهما ردًا على سؤال من سيؤدي هذا الدور الاجتماعي، أو السؤال حول قرار يخص شأنًا اقتصاديًا للأسرة!
وهنالك أيضًا حالات طلاق حصلت في سنوات الحرب واللجوء، كانت نتيجة لمعاناة الزوجة من الاضطهاد الاجتماعي في مجتمعها الأم الذي منعها من ممارسة حقها في إكمال تعليمها وفي تقرير مستقبلها وفي اختيار زوجها، ثمّ وجدت في قوانين بلد اللجوء ما يردّ لها اعتبارها، ويجعلها تستعيد كيانها كإنسان يمكنه تحقيق أحلامه.
إن قرار الزواج في الدول الأوروبية يتخذه الطرفان برغبة مشتركة بينهما، أما في سورية فأغلب عقود الزواج تتمّ نتيجة قرار ارتباط بين عائلتين، أي أنّ الزواج تحكمه العلاقات الاجتماعية، كالقرابة مثلًا، أو أنه نتيجة علاقات اقتصادية كالشراكة المالية بين العائلتين. ولذلك سمعنا عن حالات طلاق حصلت بعد اللجوء، بإرادة الطرفين واتفاقهما، فما إن استقرا في مجتمعهما الغربي الجديد حتى وجدا المجال متاحًا لهما لإعادة النظر بعلاقتهما الزوجية التي تعدّ -بحسب قوانين هذا المجتمع- علاقة قائمة على أسس خاطئة، ولعل قيام الزوجين بإعادة النظر في الرابطة التي جمعت بينهما، ثم تقييمها، سيؤدي حتمًا إلى خلافات بينهما، وقد يكون نتيجة ذلك الطلاق.
أخيرًا: إن قوانين حقوق الإنسان والحريات الشخصية التي يعيش في ظلها المجتمع الغربي، والتي لم يعرفها إنساننا السوري الشرقي، وإن عرفها البعض فإنهم لم يمارسوها على أرض الواقع في مجتمعهم وفي موطنهم، لا بدّ أن تؤدي إلى مشكلة ما أو أن تشكل عائقًا، أمام أي أسرة لاجئة في بداية مرحلة اللجوء، حتى يتمّ لها الاندماج الفكري المجتمعي والقانوني، وربما يحتاج هذا الاندماج إلى عقود من التوطين حتى يتمّ كليًا، ولو ألقينا نظرة سريعة إلى مجتمعات المغتربين من العرب وغير العرب، في بلدان أوروبا وأميركا وكندا، منذ مئة سنة إلى اليوم، لوجدنا ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح الكونتونات “التجمعات” لكل أصحاب أصلٍ مشترك، حيث يمارسون ضمنها عادات وتقاليد بلدانهم التي هجروها، وقد نجد بينهم أجيالًا ناشئة ما زالت تمارس طقوسَ العادات والتقاليد في الزواج والطلاق ذاتها.
ماسة الموصلي _ مركز حرمون للدراسات