كشفت العقود الثلاثة المنصرمة، من الاتحاد السوفييتي إلى يوغوسلافيا إلى العراق إلى سورية ثم ليبيا .. إلخ، أن الهويات الانتمائية، دينيةً كانت أو قوميةً أو عرقيةً، تتمتع بقدرة عالية على الكمون، حين يفرض عليها القمع ذلك، ثم الظهور حين تسمح الظروف أو ربما التمرّد والانفجار ضد الظروف المانعة. واللافت أن القمع لا يزيد هذه الهويات سوى شدّة ومقاومة، الأمر الذي يفرض أخذها في الحسبان عند التفكير بالمستقبل الممكن لمجتمعاتنا.
يمكن أن نعرّف الطائفية أنها تسييس الهوية الدينية، ما يعني التمييز، في المجال العام المشترك الذي تمثله الدولة، بين أبناء الشعب الواحد، بناءً على منبتهم الديني أو المذهبي. التجربة السياسية في بلدان المشرق العربي عرضت علينا شكلين من الأنظمة السياسية الطائفية (معلن ومضمر)، لكل منهما مشكلاته الخاصة، وتبيّن أن كلاً منهما يولد في المجتمع قوى رفض انفجارية قادت دائماً إلى مزيد من ضعضعة المجتمع وتفكيكه، ولا يبدو أن هذه الانفجارات تؤسس لانتقال إلى علاقات أرقى بين السلطات والمجتمع. ومع اختلاف شكل النظامين، كان محرّك الانفجارات داخلهما متشابه، يتعلق بهموم حياتية، مثل الكرامة وتكاليف الحياة.
الهويات الانتمائية، دينيةً كانت أو قوميةً أو عرقيةً، تتمتع بقدرة عالية على الكمون، حين يفرض عليها القمع ذلك، ثم الظهور حين تسمح الظروف لها بذلك
الشكل الأول هو النظام السياسي الطائفي المعلن، كما ظهر في لبنان بعد 1943 وفي العراق بعد 2003، وهو يعامل الطوائف على أنها كياناتٌ متمايزةٌ ويعترف بها ويوزّع السلطة فيما بينها حسب توافقٍ ما. توازن النظام هنا يقوم على التوافق. ولذلك هو يستند إلى ركائز عديدة بعدد الطوائف المتوافقة عليه، فلا يوجد مركز ثقلٍ واحد للنظام، ولا توجد بالتالي شخصية سياسية تمثل النظام وتشكّل نقطة ارتكازه. على هذا، لا يمكن وصف هذا النظام بأنه ديكتاتوري، إذ لا يوجد طرف محدّد يمتلك من السيطرة ما يجعله يُملي (dictate) الأوامر على النظام، ويحتكر القرار من دون منازع. سلطة الديكتاتور هنا تكون موزّعة على الممثلين السياسيين للطوائف، بحسب ثقل الطائفة وثقل الممثل ضمنها.
في مثل هذا النظام الطائفي، يدور الصراع السياسي على ثلاثة محاور: الأول، بين الطوائف، فتسعى كل طائفة إلى زيادة حصتها من السلطة رسمياً عبر تحسين موقعها في التوافق، أو فعلياً في الواقع ترجمةً لتوازن قوى على الأرض. والثاني، ضمن الطوائف، ذلك أن النخب السياسية في كل طائفة تتصارع فيما بينها على تمثيل الطائفة. والثالث، يستهدف النظام ككل، بين شعب خارج عن إطار الطوائف والدولة التي تمثل النظام الطائفي. كما شهدنا في انتفاضتي أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في لبنان والعراق. مبدأ هذا الصراع الثالث تحرير الفرد من ارتباطه السياسي بطائفة، أو بكلام آخر هو صراع ليبرالي لصالح حقوق الفرد على حساب حقوق الجماعات الطائفية. والمحرّك الأساسي له هو نفسه المحرّك الأساسي للحركات الشعبية في كل مكان. نقصد ما يعاني منه القطاع الواسع من الفئات الشعبية من حرمان وتهميش وفقر، فمعاناة الناس واحدة مهما كان شكل النظام.
غرقت الاحتجاجات التي انفجرت ضد الأنظمة الطائفية المضمرة في اللغة الطائفية
الشكل الثاني هو النظام السياسي الطائفي المضمر الذي يعلن العداء للطائفية، مثاله نظاما البعث في سورية والعراق. لا يعترف هذا النظام بالطوائف، ويستخدم لغة سياسية حديثة، وغالباً يسارية، ولكنه يعمل تحت السطح على “مراعاة” الكتل الطائفية وأوزانها، أي يقوم بتوزيعٍ شبه مستور لحصص طائفية في الدولة، ولكنه توزيعٌ غير مقونن وغير معترَف به. غير أن عمق طائفية النظام هنا لا تنبع من أنه يراعي حقيقة وجود الطوائف في توزيع الحصص. ويمكن النظر إلى هذا الجانب على أنه الجانب البارد من طائفية النظام، أما الجانب الآخر فهو الاستناد إلى العصبية الطائفية لحماية النظام، عن طريق تفضيل إحدى الطوائف على غيرها في الوظائف الحسّاسة في الدولة، ولاسيما الجيش والأجهزة الأمنية.
من الطبيعي أن هذا النوع من الأنظمة ذات المضمون الطائفي والشكل العلماني يتطلب سيطرة أقلية مذهبية أو عرقية أو عشائرية … إلخ، فالأكثرية، بوصفها كذلك، لا تتوفر على عصبيةٍ تُبنى عليها سلطة، ولا يمكن “تمييز” الأكثرية، فالتمييز يكون عادة لصالح أقليةٍ ما في مواجهة أكثريةٍ أو في مواجهة أقليات عديدة أخرى. على هذا التمييز الضمني لأقلية تُبنى سلطة النظام وتُحمى. كما يتطلب هذا النوع من الأنظمة توفر إيديولوجيا سياسية حديثة قادرة، من جهة، على ستر الممارسة “غير الحديثة” في بناء علاقات القوة داخل الدولة، وقادرة، من جهة أخرى، بحكم حداثتها وعلو تطلّعها المعلن وقوة الحق الذي تدافع عنه (تحرير أرض محتلة، أو تحديث المجتمع وتصنيعه … إلخ) على “تتفيه” الكلام عن أو الإشارة إلى العلاقات التسلطية وإلى التمييز العصبوي داخل جهاز الدولة.
هل النظام السياسي الطائفي سيئ بذاته، أي بوصفه نظاماً طائفياً أم لأن هذه الصفة تجرّ البؤس والتخلف والفقر على محكوميه
توازن النظام هنا، على خلاف النظام الأول، يقوم على مركزية السلطة التي تتجسد غالباً في شخص يمثل النظام ويشكل نقطة ارتكازه. والصراعات في هذا النظام تدور على محورين أساسيين: محور يعتمد على إيديولوجيا حديثة، تشبه، إلى حد كبير، أيديولوجيا النظام نفسه، وترفض النظام بسبب ابتعاده الواقعي عن كلامه المعلن، المثال يشمل هنا صراع الأحزاب اليسارية القومية والماركسية ضد النظام. ومحور آخر يعتمد أيديولوجيا طائفية معلنة ترفض النظام لأنه يقوم على سيطرة أقلية طائفية، المثال هنا صراع الأحزاب الإسلامية السنية أو الشيعية ضد النظام.
ومن الطريف أن الاحتجاجات التي تفجرت في وجه النظام الطائفي المعلن (كما شاهدنا في العراق ولبنان)، تتبنّى خطاباً غير طائفي، ذلك أنه لا يمكن معارضة النظام الطائفي المعلن، طائفياً. بالمقابل، غرقت الاحتجاجات التي انفجرت ضد الأنظمة الطائفية المضمرة في اللغة الطائفية.
مهما يكن الحال، يبدو أن من المهم التفكير في الأسئلة: هل النظام السياسي الطائفي سيئ بذاته، أي بوصفه نظاماً طائفياً أم لأن هذه الصفة تجرّ البؤس والتخلف والفقر على محكوميه؟ وأي النظامين أكثر قدرةً على تلبية متطلبات محكوميه، الطائفي المضمر أم المعلن؟ وهل يمكن أن نبني، من اللبنات المتوفرة في مجتمعاتنا، نظاماً غير طائفي، ويمتلك قدرة أكبر على تحقيق الاستقرار الاجتماعي والتنمية وقدرة أكبر على تلبية حاجات محكوميه؟
راتب شعبو _ العربي الجديد