تذكّرنا أزمة السكر المتفاقمة في منطقة “شرق الفرات”، شمال شرق سوريا، وطريقة تعامل سلطة الأمر الواقع القائمة هناك، معها، بقاسم مشترك –أشبه بـ “اللعنة”- يجمع بين السوريين الخاضعين لسيطرة ما يُعرف بالإدارة الذاتية “الكردية”، وبين نظرائهم الخاضعين لسيطرة نظام الأسد. ويمتد هذا القاسم المشترك ليشمل السوريين الخاضعين لسيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، أيضاً. وقد يكون الفارق بين تلك المناطق، في هامش الاحتجاج المتاح ضد هذه “اللعنة”، لا أكثر.
ففي “شرق الفرات”، حيث تسبب اعتداء ميليشيا تابعة لحزب العمال الكردستاني، على موظفي الجانب العراقي من معبر “سيمالكا”، في دفع سلطات إقليم “كردستان العراق” إلى إغلاق معبَرَين حيويين، يربطان المنطقة بالإقليم، في كانون الأول/ديسمبر الفائت. وهو ما أدى إلى نقص عروض بعض السلع الغذائية التي تستوردها الإدارة الذاتية من الإقليم العراقي، في مقدمتها، السكر. فكيف تعاملت الإدارة “الكردية” مع هذه الأزمة، التي تسببت بها أساساً، عوامل سياسية مرتبطة بفصيل “كردي” عابر للحدود، يملك نفوذاً كبيراً داخل أروقتها؟
الجواب – كان ذلك فرصة مناسبة لتحقيق المكاسب الاقتصادية. فبدلاً من أن تفتح “الإدارة” الباب واسعاً أمام تجار المنطقة لإيجاد سبلٍ لاستيراد السكر، وخلق هامش كبير من المنافسة يسمح بإتاحة المادة في الأسواق، وخفض أسعارها.. عززت الإدارة احتكارها لهذه السلعة الحيوية، عبر صالاتها الاستهلاكية، ورفعت سعرها الرسمي، ما أدى إلى التهاب سعرها في السوق السوداء.
وتتشابه استراتيجيات الإدارة الاقتصادية لدى سلطات الأمر الواقع في “شرق الفرات”، مع تلك المتبعة لدى نظام الأسد، حتى على صعيد التبرير الساذج لأسباب الأزمات المعيشية. إذ نجد مسؤولاً في هيئة الاقتصاد التابعة للإدارة “الكردية” يتحدث عن دور لسعر صرف الليرة السورية، في التسبب بأزمة السكر. وكأن سكان المنطقة لا يعلمون أن سعر الصرف مستقر منذ أشهر، وأن أزمة السكر بدأت بعد إغلاق معبر “سيمالكا”!
لكن، كيف تبرر “الإدارة الذاتية” احتكارها لاستيراد وتجارة مادة السكر؟ يأتي الجواب هنا أيضاً، مستفزاً وساذجاً. فمسؤولو الإدارة يبررون ذلك بأنه بهدف منع احتكار المادة ورفع سعرها في الأسواق. فيما النتائج على الأرض تعطي تفسيرات معاكسة تماماً.
بطبيعة الحال، يعلم سكان “شرق الفرات” بأن سلطات الأمر الواقع التي تدير منطقتهم، تتعامل مع الاقتصاد بعقلية الغنيمة، بوصفها المسيطرة على تلك المنطقة، بقوة السلاح. ومن هنا، تحتكر تجارة واستيراد معظم المواد الأساسية، وتضيّق على التجار غير المقرّبين منها، فيما تدفع بتجار آخرين، كواجهة لاستثماراتها، بصورة تعزز مكاسبها واحتكارها للمجال الاقتصادي.
وفيما يمكن أن نرى في مناطق خاضعة لسيطرة الإدارة “الكردية” احتجاجات تصل إلى حد محاولة اقتحام إحدى صالات “نوروز” الاستهلاكية -المؤسسة التابعة للإدارة، والتي تحتكر من خلالها تجارة وبيع السلع الأساسية-، تغيب أية مظاهر احتجاجية ميدانية في مناطق سيطرة النظام. لكن المسبب للأزمات المعيشية، واحد.
ففي تقرير نشرته صحيفة “الوطن” الموالية للنظام، طرحت فيه تساؤلاً موجعاً للسكان الخاضعين لسيطرة الأسد، “لماذا ترتفع الأسعار يومياً رغم ثبات سعر الصرف؟”، لا يخفي اقتصاديون وتجار، المسبب الرئيس لهذه الظاهرة. وهو احتكار قلّة محددة من التجار لعملية الاستيراد، في الوقت الذي تضيّق فيه سلطات النظام على باقي التجار، وتحدد لهم هوامش ربحية غير واقعية، مما يخرجهم من مجال العمل، لصالح حيتان كبيرة.
وفيما يتحدث مسؤولو النظام الاقتصاديين – ليلاً نهاراً- عن الأكلاف الباهظة والتعقيدات الكبيرة لعملية دعم وتمويل المحروقات والخبز والسكر والرز، يطرح أكاديميون وتجار حلاً موجزاً. إتاحة الحرية الاقتصادية للتجار، والقضاء على الاحتكار، وعدم التدخل في آلية التسعير. حينها، ستؤدي المنافسة في سوق حرّة، دورها في الدفع نحو انخفاض الأسعار. لكن إن فعل النظام ذلك، كيف سيحقق موظفو الحكومة ومسؤولوها، مكاسبهم الخفية، المتأتية من الهدر والفساد المصاحب لعمليات “الدعم الاجتماعي” المُرهقة والمُعقّدة؟! وكيف يمكن لرأس النظام والمقربين منه، الدفع برجال أعمال محسوبين عليهم، ليحتكروا قطاعات تجارية كاملة؟!
المشهد ذاته، يمكن سحبه إلى إدلب، مع اختلاف بالدرجة. فإن أردنا مقارنة حجم احتكار سلطات الأمر الواقع للحياة الاقتصادية والمعيشية، بين إدلب، وبين مناطق سيطرة النظام، يمكن أن نقول إن النظام متفوق جداً على “هيئة تحرير الشام”، في هذا المجال. لكن “الهيئة” تلميذ نجيب. فالاستراتيجيات، والتبريرات ذاتها، تُستخدم لاحتكار قطاع المحروقات والدواجن وحتى قطاع الزراعة وسوق الخضروات أيضاً. فمن شركة “وتد” وشقيقاتها –”الشهباء” و”كاف”- التي تحتكر قطاع المحروقات، إلى شركة “اليمامة” وشقيقاتها –”المراعي” و”العيسى”- التي تحتكر سوق الدواجن، من دون أن ننسى “مؤسسة النقد” و”بنك شام” المعنيان بالسيطرة على سوق الصرافة.. لا يبدو أن هناك قطاعاً تجارياً أو اقتصادياً، لا تنوي “هيئة تحرير الشام”، وضع يدها عليه، في إدلب.
وما بين الأخيرة، وجاراتها في ريف حلب الشمالي والغربي، تختلف الأسعار بشكل كبير، من دون مبرر. إذ يكشف غياب وجود سلطة أمر واقع قادرة على احتكار التجارة والاقتصاد لصالحها، في مناطق النفوذ التركي المباشر، السبب العميق لأزمات السوريين في المناطق الثلاث الأخرى.
ففي أرياف حلب، ورغم مظاهر الفلتان الأمني، والفوضى الاقتصادية والمعيشية، تبقى أسعار معظم السلع أقل بصورة كبيرة، مقارنة بالأسعار في جارتها إدلب، التي من المفترض أنها تشاركها المقومات الاقتصادية نفسها. لكن ما يميز أرياف حلب، أن لا فصيل مسلحاً فيها، تمكن من حسم المشهد لصالحه. فتناقضات وصراعات الفصائل التي تسيطر على تلك المنطقة، أتاحت هامشاً أكبر من الحرية الاقتصادية للسكان، في غياب مظهر واضح للاحتكار، ربما باستثناء السيطرة على المعابر الداخلية والخارجية.
أما في المناطق الثلاث الأخرى، “شرق الفرات”، ومناطق سيطرة الأسد، وإدلب، حيث تمكنت قوة محلية مسلحة، واحدة، من حسم المشهد الميداني لصالحها، يتبدى الاحتكار وغياب الحرية الاقتصادية للسكان، في أجلى صوره، وينعكس في ظروف معيشية متردية، تزداد تعقيداً، سنةً تلو الأخرى.
إياد الجعفري _ المدن