استطاعت المرأة في السنوات الأخيرة أن تحرز تغييرا في موقعها ضمن سوق العمل، رغم أن الأسباب كانت غالبا قسرية بسبب الحاجة الاقتصادية أو غياب الرجل، إلا أن هذا الحضور، بدأ يحدث غربلة لكثير من المفاهيم المجتمعية، والقواعد المتبعة إن كان في سوق العمل أو في النظام الاجتماعي.
التحايل على العجز هو إحدى السمات التي بدأت تظهر بشكل كبير لدى النساء السوريات بمختلف ظروفهن ومواقعهن، فبين اللواتي فقدن أزواجهن وأبنائهن و اللواتي لا زلن يعشن مع أزواجهن ويتشاركن العمل معهم ليس هنالك فرق، فالظرف الاقتصادي بحاجة لعمل الجميع.
لقد بدأت النساء بابتكار الحلول لتحمل النفقات الاقتصادية من خلال خلق أساليب جديدة، فهنّ نساء يعدن ترتيب المفاهيم والأولويات بما يناسب عواطفهن وأمومتهن، مستغنيات عن التقاليد أمام صعوبة الواقع ورفضهن للحاجة التي قد تمسهن و أبنائهن.
صناعة المؤن وبيعها
بعض النساء وجدن طرقا جديدة للعمل داخل منازلهن، وقمن بمشاريع صغيرة تعزز دور الاقتصاد المنزلي في السوق، حيث بدأن بصناعة المؤن “مواد غذائية بصناعة منزلية” من المواد الأولية الموجودة في منازلهن وبدأن ينافسن السوق والمنتوجات المصنوعة في المعامل، حتى أن هناك محالا تجارية تشتري هذه البضائع منهن، تتحدث بشرى السليم (اسم مستعار لسيدة خمسينية تقيم في ريف دمشق، أم لـ4 إناث، و2ذكور) عن مشروعها الصغير في صناعة المؤن.
تقول لـ”الحل نت”: “بدأت مشروعي بشراء الحليب وصناعة اللبنة والجبنة. كنت أبيع في الحي الذي أقطنه وأحيانا لبعض المحال، ثم استفدت من الأرباح في شراء مواد مختلفة وصناعة المؤن في منزلي وبيعها، والآن أصبح مشروعي معروفاً وبدأت أتلقى طلبات من بعض الزبائن”.
هناك طرق مختلفة تسوق بها هذه النساء البضاعة منها عبر المحال التجارية أو البيع الحر بالإضافة لعرض البضائع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت هناك الكثير من المجموعات التي تهتم بتسويق بضائع النساء وإيصالها للزبائن، وعبر هذه المجموعات تستطيع النساء عرض أي بضاعة والتواصل مع الزبون وإيصالها له.
فيما ابتكرت نساء أخريات طريقة أخرى تسمى “المطعم المنزلي”، حيث يقمن بتحضير مأكولات متنوعة داخل منازلهن ويبعنها إما للمطاعم أو للزبائن عبر الانترنت مع خدمة التوصيل، وذلك بعد إعلانهن عن خدماتهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ميساء العلي (اسم مستعار لسيدة في العقد الرابع، غير متزوجة ومسؤولة عن إعالة عائلتها المكونة من أختين وأب) استغلت مهارتها في الطبخ لتحولها إلى وسيلة للربح تقول: “كان لدي حلم بأن أفتح مطعما ولكن ظروفي لم تساعدني، مؤخرا وبعد الغلاء، وجدت فرصة لتجربة ذلك، بدأت من المواد الموجودة في منزلي بصناعة بعض المأكولات وبيعها لإحدى المطاعم ثم ازداد عدد الزبائن، والآن أقضي معظم وقتي لهذا العمل ويعود علي بمردود جيد”.
الاستفادة من الثياب المستعملة
تختلف طرق تحصيل المال لدى النساء اليوم، بعضهن يقمن بجرد ما لديهن من ملابس وعوائلهن وتنسيقها، وبيع غير اللازم منها، ثياب مستعملة تعرض بعدة طرق إحداها في مراكز تفتح خصيصا لعرض الثياب المستعملة في دمشق، أو ببيعها لمحال “البالة” أو عبر صفحات “الفيسبوك”.
ويعتبر سوق بيع الملابس من أكثر الأسواق رواجا إن كان على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الواقع. أحيانا تبيع النساء ملابس مستعملة لتحصل على أخرى جديدة، أو للحصول بثمنها على مواد أخرى تحتاجها في منزلها، وتعتبر أسعار هذه الملابس رخيصة جدا مقارنة بأسعار السوق، لمى سمير (اسم مستعار، فتاة في الرابعة والعشرين من العمر، متزوجة حديثا) تحدثت لـ “الحل نت” عن تجربتها.
وتقول “كنت بحاجة لبعض المال لاستكمال مشروع تخرجي في الجامعة، عندما قررت بيع بعض الملابس القديمة لدي، عرضت البضاعة عبر إحدى الصفحات واستطعت بيع بعضها، وبدأت أفكر بأن أتابع هذا العمل بتعلم خياطة الملابس القديمة بشكل جديد، و الآن لدي صفحة خاصة وزبائن ولا أتوقف عن العمل”.
تشكل هذه الأعمال الصغيرة بداية لمشاركة المرأة في الإنتاج الاقتصادي، وتعزيز حضورها اجتماعيا، وعن أهمية هذا الانخراط للمرأة في سوق العمل وتأثيره على مكانتها ضمن الفضاء العام، يتحدث لـ “الحل نت” الباحث الاجتماعي، محمد الجسيم.
“بالمفهوم الاجتماعي نطلق على الأساليب الجديدة لمواجهة الغلاء مصطلح “آليات التكيف مع الواقع المتاح”، ويمكن القول أن انخراط النساء بسوق العمل مهما كان نوع العمل، وهو بداية لزيادة مساحة الاستقلالية الفردية من جهة، وأيضا تحصيل مكانة باعتبارها جنسا حاضرا وبقوة في الحياة الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية” يضيف الجسيم.
التغيير الاجتماعي المحتمل حصوله بإطار تحصيل حقوق متساوية للمرأة مع الرجل، يأخذ وقتا طويلا نسبيا، لتشابك المحددات لوضعية المرأة في المجتمع ثقافيا ودينيا واجتماعيا، إلى جانب الوضعية الاقتصادية (باعتبارها عنصرا معتمدا على الرجل).
لكن يمكن القول إن التغير في الوضعية الاقتصادية للمرأة ودخولها لسوق العمل، وتحولها من العمل غير المأجور داخل المنزل إلى العمل خارجه، سيؤثر حتما على تبدل البنى الاجتماعية والثقافية الحاملة لعدم المساواة الجندرية وإعادة النظر فيها من جديد، وفق الجسيم.
النساء في مهن جديدة
غياب الرجل دفع المرأة لاقتحام سوق العمل، فمع تناقص أعداد الرجال وخاصة الفئات العمرية بين 15 إلى 45 نتيجة الهجرة أو الفقدان في الحرب، فأصبحت حاجة المرأة للعمل وحاجة أصحاب الأعمال للأيدي العاملة متساوية، والذين بدأوا باستقطاب النساء إلى أعمالهم على اختلافها، ورغم أن هناك بعض الرجال الذين لا يفضلون وجود امرأة في عملهم إلا أن الغالبية بدأت تتقبل ذلك وتجده طبيعيا أيا يكن نوع العمل، أعمال كثيرة دخلتها النساء.
الظروف الاقتصادية العامة والحرب جعلتا من التقييمات الاجتماعية وعوامل المنع والرفض أقل من السابق، فالظرف استثنائي ولا يمكن إيقاف النساء اللواتي يكافحن للحصول على لقمة العيش، الآن أصبح سوق العمل بمعظمه يعتمد عليهن، المقاهي تعج بالفتيات اللواتي يعملن وهذا لم يكن موجودا قبل عام 2011، المحال التجارية ومراكز بيع السجائر بمعظمها إناث، فيما ازداد تواجد النساء في الأعمال التي يعتبرها البعض مناسبة للنساء مثل الرعاية الصحية والتدريس، ومراكز التجميل، والخياطة، حيث تعتبرها الأغلبية أكثر ملائمة لحياتهن، ولكن ذلك لا ينفي حدوث تغييرات ملحوظة، من نساء يقدن سيارات أجرة وأخريات يعملن في ورشات للطلاء أو الديكور.
أعمال مختلفة باتت المرأة تثبت وجودها ضمنها، وبحسب تقارير عديدة فإن نسبة النساء العاملات في سورية في تزايد، حيث صدر في السنوات الأخيرة تقرير لـ “المكتب المركزي للإحصاء” في سوريا، يبين أن نسبة العاملات ما بين 20-39 عاما تشكل نحو 64,2 بالمئة، فيما صرح رئيس اتحاد نقابات العمال في سوريا، جمال القادري، في وقت سابق هذا العام بأن نسبتهن تزيد عن 70 بالمئة، فيما تتحدث مصادر غير رسمية عن وصول هذه النسبة لـ80 بالمئة.
الباحث الاقتصادي، مقدام البربور، وفي حديثه لـ “الحل نت”، كان له رأي في عمل المرأة ودورها في الاقتصاد حيث قال: “الإنتاج هو العامل الأهم في النمو الاقتصادي، وفي هذه الحالة تساهم المرأة في عملية الإنتاج، وبمساهمتها هذه تقوم بدور الإدارة التي يترتب عليها العائد “الربح” وبهذا الشكل هي تساهم في النمو الاقتصادي بشكل لا جدال فيه، لكن هناك خصوصية للوضع السوري اليوم فالاقتصاد هو اقتصاد حرب، وبالتالي فكرة الإجبار التي تخضع لها المرأة في المساهمة بالعملية الاقتصادية تخلق نوعا من الشك حول هذه المساهمة”.
وتابع “من جهة أخرى كل أزمة تعتبر خطرا أو فرصة، وهذه الأزمة أدخلت المرأة بشكل من الأشكال ضمن العملية الاقتصادية، وهذا فرض عليها التزامات وحقوقا مالية، فبحسب القانون المدني فإن أهم مكونات الشخصية الاعتبارية هو الذمة المالية، وبالتالي هذه الأزمة أعطت المرأة شخصية اعتبارية بشكل من الأشكال لتصبح مستقلة عن التبعية للرجل بفضل الاستقلال الاقتصادي”.
وعن إمكانية تطوير هذه المشاريع وتأثيرها الاقتصادي أضاف البربور، “تندرج هذه المشاريع تحت إطار التمويل الصغير، ومن منطلق العمليات الاقتصادية هي أقرب لتحقيق الاكتفاء في ظل الأزمة، مما يجعل هذا النوع من النشاط الاقتصادي عبارة عن اقتصاد ظل، أو اقتصاد أسود باعتباره غير خاضع للضريبة وبالتالي لا يمكن قياسه، ولا نستطيع الاعتماد عليه في خلق نمو اقتصادي قابل للاستمرار والذي يعتبر تنمية، لذلك لا يعول على استمراريته، هو فقط مواجهة مؤقتة للمشكلة بهدف الوصول لخلق نمو اقتصادي قابل للاستمرار”.
ربا أحمد _ الحل نت