اكتسب المنصب في العقلية العربية منذ فترة طويلة، ربما تعود إلى الحقبة الأموية، مفهوماً مغلوطاً، بحيث جرى غالباً الدمج بين المنصب كوظيفة يشغلها أشخاص متبدلون، والشخص المكلف بهذه الوظيفة، والذي يبدو أحياناً أكثر أهمية وديمومة من الوظيفة نفسها، الأمر الذي يجعل سلخ هذا الشخص عن وظيفته، ولو لمقتضيات التبديل الاعتيادي، عملية صعبة ومحرجة، وقد تعتبر من جانبه، ومن جانب المجتمع، كإهانة أو إجراء عقابي.
ومع انقضاء السنوات العشر العجاف من الربيع العربي، تبدو الشعوب العربية ربما بفعل اليأس أو “النضج” الزائد، كفت عن المطالبة بأهداف كبيرة مثل الانتخابات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وباتت مطالبها تكاد تقتصر على بعض التغيير، بغية التخلص من بعض الممارسات الخاطئة أو بعض الوجوه التي طال مكوثها فوق كراسي السلطة، بالرغم من اقترانها في أحيان كثيرة بالفساد والقصور الوظيفي.
وفي ظل هذا الانحسار في المطالب، من المفترض أن تجري الأنظمة العربية بعض التغييرات في أساليب إدارتها للدولة والمجتمع، وتفرز من صفوفها الأفضل، بما يستجيب لتوقعات الأجيال الجديدة التي بات وعيها يتجاوز مستوى الممسكين بزمام الأمور في بلدانها، لأنها لم تعد تحت رحمة هؤلاء أو وصايتهم، بفضل العولمة الصاروخية لكل العلوم والخبرات في كل المجالات، بما يتيح تدفقا غير مراقب للمعلومات من كل اتجاه.
السلطة تمسك تماما بعملية تدوير المناصب وتوزيعها على من تريد، إما كمكافأة للموالين، أو لشراء ذمم المعارضين والمحايدين
وهذه الأجيال الجديدة التي تفتح وعيها على الثورات المطالبة بالحريات والديمقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص، بما يعزز من طموحها للمشاركة في السلطة والثروة، تجد نفسها اليوم ما زالت مبعدة بسنها وثقافتها وأفكارها عن الشأن العام الذي ما زال محتكرا إلى حد بعيد من جانب العقليات القديمة إياها والتي يجري تعيينها على أساس الولاء وليس الكفاءة، وفق القواعد
القديمة نفسها المهيمنة على إدارة الشأن العام في المنطقة العربية منذ عقود طويلة.
وبطبيعة الحال، فإن السلطة تمسك تماما بعملية تدوير المناصب وتوزيعها على من تريد، إما كمكافأة للموالين، أو لشراء ذمم المعارضين والمحايدين، مع أدنى اعتبار لمعايير الكفاءة والنزاهة، بل في بعض الأحيان، قد يكون توفر هذين الشرطين سببا لإقصاء صاحبهما وليس توليته، ذلك أن صاحب الكفاءة والمبادئ الأخلاقية، قد يعرقل أو يشوش على منظومة الفساد والترهل والبيروقراطية التي يقوم عليها الجهاز الإداري عند هذه الأنظمة.
ومن الطرائف التي تروى في هذا السياق، أن رجلا في سوريا عزل من منصبه، وطلب إليه الانتظار في بيته ريثما يبت بأمره. وكالعادة في هذه الحالة، فإن الشخص المعني يبدأ في تشغيل اتصالاته ومعارفه ليستعيد منصبه أو يتسلم منصبا آخر.
ذهب الرجل إلى رئيس أحد الأفرع الأمنية ليجس النبض حول صورته لدى القيادة ومدى رضاها عنه، وبينما هو يتحدث مع رئيس الفرع، رن هاتفه وخرج تاركا صاحبنا لوحده في المكتب الذي أكله الفضول لمعرفة ما هو مكتوب في الورقة التي كان يحدق فيها رئيس الفرع خلال حديثه معه، وتركها على الطاولة، فتجرأ على النظر إليها حيث وجد اسمه ضمن قائمة أسماء، وقد كتب إلى جانبه: “تافه، ولكن يمكن الإفادة منه”. عندها اعتراه القلق، دون أن يجرؤ على سؤال رئيس الفرع عن مغزى ما رأى. وبعد أن غادر، توجه إلى أحد أصحابه ممن كان له منصب في سالف الزمان، واستشاره في الأمر، فما كان منه إلا أن ضحك كثيرا وبشّره خيرا، فقال له أي خير وقد كتب إلى جانب اسمي تافه؟ فقال له وهذا يجب أن يكون مبعث ارتياحك لا قلقك، لأن القيادة عندنا تبحث عن هذه الصفات دون غيرها، خاصة أنهم كتبوا أيضا أنه يمكن الاستفادة منك، أي ما زلت مرشحا لتولي منصب ما.
ورغم اقتران المنصب بمنظومة الفساد والإدارة المترهلة في المجتمعات العربية، فإنه ينتفخ على هالة من الفخامة والتقديس التي تتجه إلى شخص صاحبه وليس وظيفته، حتى إن صاحب أي منصب مهما كان صغيرا يأبى أن يخاطب باسمه أو اسم منصبه، دون صفات تسبقه مثل حضرة السيد المدير العام أو الدكتور أو المهندس، بينما في الدول المتحضرة يمكن مخاطبة حتى رئيس الدولة باسمه الشخصي مسبوقة بكلمة السيد فقط، وهو تهذيب يندرج على كل الناس، مهما كان وصفهم الوظيفي، أو حتى كانوا عاطلين عن العمل.
ومن هنا، فإن ثقافة تقديس المنصب، أو النظر إليه كامتياز لا ينبغي التفريط فيه ولو على قطع الرقاب، هي البيئة الحاضنة للديكتاتورية في العالم العربي، حيث نادرة هي الحالات التي يستقيل فيها أصحاب المناصب أو يتخلون عنها بمحض إرادتهم أو احتجاجا على أمر ما، الأمر الذي يجعلهم في بحث دائم عن إرضاء أولياء أمرهم، وليس خدمة المؤسسة التي يعملون لديها، وهي صورة مصغرة للحكام العرب المستعدين للتضحية بكل شيء مقابل استمرارهم في مناصبهم، ولو على أنقاض بلادهم وجثث مواطنيهم.
عدنان علي _ تلفزيون سوريا