كثيرات هنَّ النساء اللواتي وجدن أنفسهنَّ فجأة وحيدات، دون زوج أو أب أو أخ، تختلف ظروف كل واحدة منهن، ولكن ما يجمعهنَّ هو مجموعة كبيرة من التغيرات التي طالت حياتهنَّ وقلبت الكثير من المفاهيم عن أساليب العيش والسلوكيات التي اعتدن ممارستها، فحياة امرأة وحيدة مع أطفال وحتى بدونهم ليست سهلة في المجتمع السوري. فكيف تعيش هذه النساء، وما الحلول التي أوجدنها ليكملن حياتهنَّ في ظل هذه الظروف الصعبة؟
التغيرات الاجتماعية والاقتصادية
“لم أستطع المحافظة على دكان زوجي فالبضاعة بدأت بالنفاذ وليس لدي أي مصدر للرزق، في عام 2016 اضطررت لترك منزلي، والبحث عن مكان آخر مع ثلاثة أطفال صغار، تنقلت بين بيوت أقاربي، حتى حصلت أخيراً على هذه الغرفة وبدأت العمل في حضانة مجاورة لها، كنت مضطرة لإهمال أطفالي والاهتمام بأطفال آخرين مقابل أربعين ألف ليرة”.
تتابع عبير الحديث عن حياتها بعد فقدان زوجها. كانت أكثر التغيرات اقتصادية فلم يعد بمقدورها الحصول على المال بسهولة، فما بين اضطرارها للعمل وغيابها عن البيت أصبحت مهمة تربية الأطفال وإلحاقهم بالمدارس شبه مستحيلة.
أولى العقبات التي تواجه النساء عند فقدانهنَّ لأزواجهنَّ أو معيلهنَّ هي اصطدامهنَّ بواقع الحياة العملية خارج المنزل خاصة، وإن كنَّ نساءً قد نشأن على مهمة واحدة وهي المهمة المنزلية والاعتناء بالأبناء، حيث تنتمي أغلبية نساء المجتمع السوري لهذه الفئة، فتتسم حياة المرأة العاملة في سوريا بالعراقيل التي تقلِّص من فرصة نجاحها أو حصولها على عمل، حيث يتسبب في ذلك أمور عدة، سواء كانت المحسوبيات والنظرة الدونية للمرأة والطبقية ودرجة التعليم التي حصلت عليها.
حياة على الهامش
لم تتوقف تأثيرات الحرب على الخسائر البشرية والانهيار الاقتصادي، فامتداد هذا التأثير وصل إلى جميع تفاصيل حياتنا وسلوكياتنا، وللجانب الاجتماعي نصيب كبير من ذلك، شهد الجانب الاجتماعي من حياة النساء تحولاً كبيراً، ورغم كثرة التفاصيل والقصص الموجودة وصعوبة رصدها، إلا أنه من الواضح الاختلاف في طبيعة حياة النساء وخاصة اللواتي بقين وحيدات بعد الحرب.
نساء يعشن ضمن الحد الأدنى دون هوية اجتماعية واضحة، يتعرضن للاستغلال والتحرش وجميع أشكال الحرمان من ممارسة حقوقهنَّ بشكل طبيعي، في الوقت الذي تمردت فيه أخريات على واقعهنَّ وأحدثن تغييراً كبيراً في طبيعة حياتهن. نهى سعيد “اسم مستعار” تزوجتْ في عمر السابعة والعشرين، وتوفي زوجها في الحرب بعد سنتين من الزواج واضطرت للعودة إلى بيت والديها، تتحدث عن حياتها قائلة “توفي أبي منذ عشر سنوات وأمي عاجزة. أصيب أخي في ساقه أثناء الحرب وأصبح عاجزاً عن المشي، عشت معهم لفترة بعد وفاة زوجي وبعدها لم أستطع التحمل أكثر بسبب تعنيف أخي لي، بالرغم من أنه عاجز عن الحركة إلا أنه لا يتوقف عن تعنيفي، وأمي تمتلك طبعاً قاسياً وتؤيده في أفعاله، أعمل موظفة في إحدى المؤسسات أعطي راتبي لعائلتي وأعيش في بيت إحدى جاراتي التي تعاملني كابنة لها.
ليس أمام بعض النساء سوى الهرب، حتى ولو كان هذا الهرب لا يغير في حياتهنَّ شيئاً إلا أنه قد يخفف بعض المعاناة، تهرب نهى من بيت عائلتها لبيت جارتها، من دوامة العنف التي تعيش فيها بشكل يومي، تنقسم النساء اللواتي فقدن أزواجهنَّ لقسمين، نساء أنجبن أطفالاً واضطررن للعمل وتأمين معيشة هؤلاء الأطفال متناسيات بشكل كامل حياتهنَّ الخاصة وإمكانية الزواج لمرة ثانية، بعضهنَّ خاضعات لحكم عائلات أزواجهنَّ، وأخريات خرجن من سيطرة العائلة ليجدن طريقاً آخر لهنَّ ولأبنائهن، فيما تبقى النساء الوحيدات دون أطفال أو عائلة رهينات أحكام الوصي الأقرب لهن، وغالباً ما يرضين بأي زواج من أجل الخلاص.
نور رعد “اسم مستعار” متخرجة من قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق وتعمل في الأبحاث الاجتماعية، إنه “في الحروب يحصل تفكك للمفاهيم المجتمعية، وبالتالي انهيار للنظام المجتمعي القائم والأخلاقيات العامة مما يؤدي إلى ظهور سلوكيات جديدة تفرضها الحاجة ضمن ظروف الحرب، ما يمكن أن يعود بالنفع على المرأة وتحصيلها لحقوقها هو انعدام التقييم المجتمعي للتغييرات في سلوكيات المرأة طالما أنها نابعة عن ضرورة مهما كانت مستهجنة فيما سبق”.
وتتابع”البلاد الآن في حالة فوضى في المفاهيم وما تحتاجه المرأة في هذه الفترة هو إعادة بناء مفاهيم جديدة لوجودها وفعاليتها المجتمعية وترسيخها لتصبح جزءاً من التغيير المجتمعي الحاصل، وهذا يحتاج وعياً نسوياً بالحقوق وأهمية العمل وإثبات الوجود كجزء فاعل وقوي مجتمعياً، وقد بدأ هذا يحصل بشكل ما نتيجة الحرب وخساراتها، طالما أثبتت المرأة قدرتها على تحملها مسؤولية حياتها والعيش مستقلة فهذا يعتبر نجاحاً وانفكاكاً من قيم مجتمعية كانت مقيِّدة سابقاً”.
تحصيل الحقوق
تتعلق حرية النساء وتحصيل حقوقهنَّ بشكل كبير باستقلالهنَّ المادي، وغالباً ما تصبح حياة النسوة أكثر استقلالاً أثناء الحروب بسبب غياب الرجال وتحملهنَّ لمسؤولية المعيشة وتحصيل المال اللازم لذلك، يسهم هذا إلى حد ما في تغيير الوضعية المجتمعية للمرأة ضمن الفضاء العام وفرض دور أكثر أهمية لها، ويصبح تحصيل الحقوق وفرض رغبات النساء وشكل الحياة التي يردنها أكثر سهولة في الوقت الذي يصبحن فيه يمتلكن زمام المبادرة وإمكانية العمل والعيش وفق خططهنَّ الخاصة.
ورغم خروجهنَّ كان نتيجة لمآسي الحرب والفقد، إلا أنه شكّل تغييراً ضئيلاً في الشكل الاجتماعي السابق لحياتهن. لا يمكن اعتبار ذلك تحصيلاً لحقوقهنَّ ولكنها خطوة قد يترتب عنها ذلك مع الوقت. ندى حسن “اسم مستعار” وهي ناشطة نسوية مقيمة في اللاذقية تتحدث عن ذلك لـ “الحل نت”.
“بالتأكيد حصلت تغييرات في حياة كثير من النساء، بالإضافة لعمل حثيث من قِبل منظمات حقوق المرأة لنشر الوعي لدى النساء بالإمكانيات التي سلبت منهنَّ نتيجة تنميطهنَّ في أدوار محددة، والقوانين المجحفة بحقهنَّ وأهمية سعيهنَّ لتحصيل الحقوق، لا يمكننا القول إن هناك تغيير ملموس على أرض الواقع في طبيعة حياة النساء أو تغيير في القوانين، لكن عمل الحركات النسوية والجهد الذي يبذلنه سيثمر تغييراً بالتأكيد على المدى الطويل، بالإضافة لاختلاف الوعي في المجتمع بشكل عام نتيجة الحرب والانفتاح على العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ودور الإعلام مؤخراً في تركيزه على مشاكل المرأة وحقوقها”.
لا يمكن القول إن تجارب النساء اللواتي خسرن أزواجهنَّ أو أبناءهن نتائجها إيجابية وجيدة، فالحالة النفسية والفقد من أهم الأسباب التي تعيق العيش بشكل طبيعي، ولكن غياب الرجل إن فقد بالحرب أو السفر، هو مؤثر قوي على حركة المرأة وتغيير طريقة معيشتها، لا يمكننا تقييم نتائج ذلك الآن ضمن هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة ولكن أقلها قد تستطيع تلك النساء نقل تجارب ومفاهيم مختلفة لبناتهنَّ وإحداث تغيير في المستقبل.
ربا أحمد _ الحل نت