اكتسب الملف السوري حراكا دوليا في الأشهر الأخيرة مع تعدد اللقاءات الدولية وتبادل الدول المعنية بالملف السوري الوفود الزائرة، وكثرة اللقاءات التي جرت وتجري وينتظر أن تجري مستقبلا، مع ترتيبات ميدانية تشي بأن ثمة مراحل جديدة تدخل بها البلاد ميدانيا وسياسيا، وترسم خطوطا عريضة للملامح المستقبلية في البلاد، ومن اللافت أن الحراك الروسي هو الأبرز والذي له أكثر من بعد، وهذا ما يطرح تساؤلات إن كانت روسيا بدأت فعليا في تطبيق الاتفاقات مع أميركا على الساحة السورية، مستفيدة من الأجواء الميدانية والاستراتيجيات الأميركية الجديدة في المنطقة والعالم، فضلا عن التوافقات التي تجري مع الجانب التركي.
اللقاء الأميركي الروسي في جنيف قبل أيام لم يكن الأول من نوعه، ولكنه يلفت الأنظار بأنه حصري يتعلق بالملف السوري والبحث فيه، وإن كانت هناك محاولات لإعطائه صبغة البحث في القضايا الإنسانية، إلا أنه لم يعلن أي شيء عن المداولات بين المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف والمبعوث الأميركي روبرت ماكغورك، ولم يتم التصريح للإعلام بأي تفاصيل جرت، كما أنه لم يصدر أي بيان بفحوى ومضمون المشاورات، في حين تواصل روسيا لعب دور العراب بين النظام وقوات قسد لتحقيق تفاهمات فيما بينها وفي ظل تهديدات تركية بالقيام بعمل عسكري جديد في مناطق شرق الفرات، وهو ما تستغله روسيا لابتزاز قوات والدفع بها للتنازل لصالح قوات النظام.
توافقات أستانا التي تجري بين الدول الضامنة لها مساحة محدودة من التوافقات ويعتبر الاتفاق الروسي الأميركي هو المحدد الأساسي
وتقود هذه التطورات إلى التسريبات التي تبعت قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي السابق دونالد ترامب في العام 2018، التي تحدثت عن خطة روسية وضعها رئيس معهد الاستشراق فيتالي نعومكن، وتحدثت عن نموذج عراقي في سوريا يقوم على فيدرالية تقتضي بمنح منطقة حكم ذاتي تشبه إقليم شمالي العراق لقوات قسد مع سيطرة النظام على المناطق الحدودية، ومحاولة تطمين المخاوف التركية من الإرهاب عبر إنشاء المناطق الآمنة والعازلة، وأن الجانب الأميركي أبدى موافقته مبدئيا واستعداده لتوجيه قوات قسد للحوار مع النظام حول هذه الاتفاقية، ومحاولة إقناع تركيا بمكاسب في إعادة الإعمار ومقاربة العلاقة بين تركيا وقسد بالعلاقة القائمة حاليا بين أنقرة وإقليم شمالي العراق، وانعكاس ذلك بالفائدة على جميع الأطراف، وتقتضي تلك الخطة بإخراج إيران أو تقييدها في سوريا، وتوقعت الأوساط المتابعة آنذاك أن يؤدي ذلك إلى توافق أميركي روسي تركي يؤدي إلى حلحلة الأمور والانتقال إلى الحل السياسي بناء على هذه الخطة.
ومن المعروف أن توافقات أستانا التي تجري بين الدول الضامنة لها مساحة محدودة من التوافقات ويعتبر الاتفاق الروسي الأميركي هو المحدد الأساسي ويرسم ملامحه العريضة، ومع الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة القائمة على الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، أو على الأقل خفض التركيز عليه، والتوجه لمواجهة الصين، بات واضحا أن هناك توجها لعقد اتفاقات مع روسيا، واللقاءات المتكررة تظهر التوجه الأميركي الجديد، والحوار الذي ترعاه روسيا بين النظام وقسد بشكل يجعل تلك القوات تستسلم للرغبات الروسية، والحديث الأميركي عن أن العمليات العسكرية التركية التي تهدد بها أنقرة تقع في مناطق تعتبر في النفوذ الروسي وبالتالي النظام، وهو ما يعني بالضرورة أن على قسد الحوار مع روسيا والنظام، ومعناه رميها في شباك روسيا، ومن المؤكد أن تركيا لا تمانع بانسحابات قسد من المناطق التي تعتبرها تركيا تشكل خطرا على أمنها القومي وحلول النظام مكان تلك القوات، لأنها بالنهاية قادرة على حوار روسيا وإخضاع النظام لأي توافقات، كما أن روسيا نفسها شددت أكثر من مرة على إمكانية تطبيق اتفاقية أضنة الموقعة بين الدولتين التركية والسورية عام 1998 وعدلت لاحقا، والتي تتيح لتركيا التدخل العسكري لعمق معين فيما يهم أمنها القومي، وبالتالي يمكن لأنقرة وموسكو التوافق في المناطق الشمالية لسوريا.
ومع ضغط روسيا على قسد، والتخلي غير المعلن من أميركا عن تلك القوات، والانزعاج الروسي من إيران بسبب إعاقتها التوافقات والعمل السياسي في جنيف مؤخرا ضمن اللجنة الدستورية، ومع التوافق الروسي الإسرائيلي، وتكثف الحوارات التركية الروسية من جهة، والروسية الأميركية من جهة ثانية، والتركية الأميركية من جهة ثالثة، والضوء الأخضر الأميركي للطيران المسير التركي باستهداف قيادات قسد المرتبطة بتنظيم بي كي كي الإرهابي، والحديث عن طلب أميركي من قسد بإخراج تلك القيادات من سوريا بشكل كامل، من الطبيعي التساؤل هل نحن أمام تطبيق تفاهمات روسية أميركية وفق التسريبات السابقة تقضي بسيطرة قوات النظام على مناطق واسعة من شرق الفرات، مع منح منطقة حكم ذاتي ذات صلاحيات قليلة لقوات قسد، وتأسيس منطقة آمنة أو عازلة على الحدود ترضي تركيا، وإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من المنطقة، هذه تساؤلات من واقع الأحداث الأخيرة، ترسم ملامح التوافقات المستقبلية، وتبقى إدلب مؤجلة في الوقت الحالي لحين انتهاء الترتيبات في شرق الفرات والانتقال إلى إدلب والتواصل فيها لاتفاقات نهائية، حيث إن العمليات العسكرية أيضا شبه متوقفة في المنطقة مع ضيق هامش المناورة فيها وتشكيل القوات التركية حاجزا مانعا من أي هجوم بري من قبل النظام وروسيا والميليشيات الإيرانية بإدلب، كما أن الضوء الأخضر لإسرائيل باستهداف الميليشيات الإيرانية أيضا يصب في السياق نفسه.
إذا نحن أمام خطوط عريضة ترسم ملامح واستراتيجيات روسية أميركية في المنطقة دون أن يكون للسوريين قرار فيها، ومن المهم معرفته، فهل نحن أمام نظام فيدرالي في سوريا مستقبلا، وما هو مصير المناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا، وهل هي طويلة الأمد وستكون جزءا من النظام الجديد الفيدرالي، هذه تساؤلات مطروحة حاليا وربما ستتوضح أكثر مع انتهاء التوافقات الميدانية والانتقال للحل السياسي، وربما هذا ما يبرر سرعة الحديث عن محاولات التطبيع العربية مع النظام والذي يحظى بدعم روسي، لكن هل ستوافق أميركا على بقاء النظام كما هو في ظل هذه التوافقات، وفي ظل تأكيدها المستمر على ضرورة أن يكون هناك حل سياسي مرضٍ وفق القرار الأممي 2254 تمهيدا لإعادة الإعمار، وإعداد دستور جديد وانتخابات، فهل يعني الضوء الأخضر الأميركي هو استمرار النظام في الحكم، وما هو مصير المعارضة، كلها تساؤلات محقة لكل سوري.
روسيا من الواضح أنها ستتمسك بالنظام لحين استكمال التفاهمات والتوافقات مع كل الأطراف، والمضي بعدها في العملية السياسية
من الواضح أن التمسك الروسي بالنظام هو بسبب التمسك بالمشروعية وفق ما تدعيه موسكو، وأن هذه الدول في حراكها بسوريا تبحث عن المشروعية دائما، وفي الأزمات المشابهة في الدول الأخرى، يبحث كل طرف عن المشروعية، فروسيا من الواضح أنها ستتمسك بالنظام لحين استكمال التفاهمات والتوافقات مع كل الأطراف، والمضي بعدها في العملية السياسية، لكن كل هذه المراحل التي تتعلق بالعملية السياسية والتوافقات والمصالحات والمناطق الآمنة والنظام الفيدرالي لا يمكن أن ترى النور بليلة وضحاها وهي بحاجة لمزيد من التوافقات واللقاءات، وربما تكثف تلك اللقاءات في الفترة الأخيرة يوضح أن العام 2022 المقبل سيكون عاما محددا للخطوط العامة، خاصة أن تركيا ترغب بتحقيق تقدم سياسي ينعكس عليها داخليا، وروسيا ترغب ببدء مرحلة إعادة الإعمار وهو ما يعني حصول عملية سياسية حقيقية، وإلا فإن الوضع الميداني سيبقى على حاله ولن يتحقق الحل السياسي في البلاد.