على طريق غابة مظلمة في أكتوبر/تشرين الثاني، كانت الشرطة البولندية تلاحق سيارة مسرعة تجاوزت نقطة تفتيش. كان سائق السيارة مهرباً للبشر، يقلّ ثلاثة ركاب سوريين، دفعوا آلاف الدولارات مقابل نقلهم إلى ألمانيا؛ محطتهم الأخيرة في رحلتهم من الشرق الأوسط عبر بيلاروسيا. ودون فائدة حاولت شاحنة قادمة في الاتجاه المعاكس تفادي الاصطدام بهم؛ وعلى الفور لقي فرهاد نابو (33 عاماً) حتفه في الحادث، وهو متزوج وأب لطفلين من كوباني “عين العرب”. بحسب ما نقلت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية عن أقارب فرهاد.
كان فرهاد قد استقل رحلة جوية مباشرة إلى مينسك عاصمة بيلاروسيا من أربيل في شمالي العراق. وتنقل “ذا غارديان” عن ابن عمه رشوان: “في الرقة ودمشق وحلب، انتشرت الأخبار منذ أشهر بأن أسهل وأسرع وسيلة للوصول إلى أوروبا هي رحلة مباشرة إلى بيلاروسيا”.
فرهاد هو واحد من تسعة أشخاص على الأقل لقوا حتفهم منذ بداية أزمة المهاجرين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا. حيث يتُهم ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا، بتعمّد إثارة أزمة مهاجرين جديدة في أوروبا، من خلال تنظيم عبور آلاف الأشخاص من الشرق الأوسط إلى الحدود الأوروبية، انتقاماً من عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على نظامه الدكتاتوري.
وعن الوضع الحالي تقول “ذا غارديان” إن آلاف العائلات القادمة من سورية والعراق تعيش حالياً في خيام صغيرة متناثرة بين الأشجار في المنطقة الحدودية بين البلدين، حيث تنخفض درجات الحرارة ليلاً إلى ما دون الصفر. وفي الوقت الذي ما زال الكثيرون يتجمهرون يومياً أمام وكالات السفر للتوجه إلى بيلاروسيا؛ تستمر عائلة فرهاد في انتظار عودة جثة ابنهم من بولندا!
يدفع كل مسافر قرابة 3500 دولار أميركي نقداً
وتنقل الصحيفة عن وكيل سفر في بيروت، يقدم خدماته للسوريين الذين يحاولون الوصول إلى بيلاروسيا، أن الأمر بدأ في إبريل/نيسان، حيث امتلك قلة من الناس الجرأة لتجربة طريق جديدة للوصول إلى الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا دون الحاجة إلى تأشيرة شنغن. ويضيف الوكيل أنه بعد أن نجح العديد من الأشخاص في الوصول إلى أوروبا، بدأت الأعداد تتزايد.
في كردستان العراق، يبدو الوضع مشابهاً، حيث تنقل الصحيفة عن أحد الوكلاء في أربيل قوله: “لقد تلقينا معلومات من وكيل في بغداد قبل الصيف، بأن بيلاروسيا تمنح التأشيرات”. ويضيف: “لم يستغرق الأمر كثيراً قبل أن تنتشر هذه الأخبار بين الناس، لكنه تعاظم بشكل كبير في الشهرين الماضيين”.
وتكشف “ذا غارديان” أن الأسعار متشابهة في كلتا المدينتين، حيث يدفع كل مسافر قرابة 3500 دولار أميركي نقداً، ويخصص الجزء الأكبر من المبلغ لدفع ثمن التأشيرة.
وبحسب معلومات حصلت عليها الصحيفة، فقد تقدّم ما يتراوح بين 3000 إلى 4000 سوري بطلبات للحصول على التأشيرة في لبنان، بمساعدة السفارة السورية في بيروت.
بعد الحصول على التأشيرة؛ يعبر المسافرون الحدود البرية عائدين إلى سورية، ومن دمشق يتجهون جواً إلى بيلاروسيا. بعضهم يتجه إلى إسطنبول ومنها إلى بيلاروسيا عبر شركات الطيران البيلاروسية، في حين يتجه معظمهم إلى بيلاروسيا مباشرة على متن شركة الطيران السورية “أجنحة الشام” التي تسيّر رحلة جوية يومية إلى مطار مينسك. وبحسب بيانات مطار مينسك المنشورة في الشهر الماضي؛ فقد زاد عدد الرحلات الجوية القادمة من الشرق الأوسط إلى 55 رحلة أسبوعياً.
المهاجرون.. وقود في نزاع بيلاروسيا مع الاتحاد الأوروبي
وتنقل “ذا غارديان” عن مسؤول كبير لم تسمه في إقليم كردستان، انزعاج قيادة الإقليم من تصاعد عمليات الهجرة، ويقول: “نبحث عن وكلاء سفر متورطين في ما يبدو أنه لعبة سياسية خطيرة من جانب بيلاروسيا، التي تصوّر الأمر على أنه إصدار روتيني لتأشيرات سياحية”.
ويضيف: “إن ما يحدث هو إتجار بالبشر، واستغلال للأسر الفقيرة لتكون وقوداً في نزاع بيلاروسيا مع الاتحاد الأوروبي”.تنقل “ذا غارديان” عن العشرات من طالبي اللجوء السوريين والعراقيين والأفغان، في مدينة بياليستوك البولندية، ممن تمكنوا مؤخراً من عبور الحدود مع بيلاروسيا. وقد أكدوا جميعهم أنهم وصلوا عبر عروض متكاملة قدمتها لهم وكالات سفر، والتي يبدو أنها على صلة وثيقة بالسلطات البيلاروسية، بحسب الشهود.
وتنقل الصحيفة عن مترجم عراقي تأكيده أن جميع وكالات السفر “مرتبطة بالبيلاروسيين”، حيث دفع مئات الأشخاص مقابل عروض تتضمن رحلة ذهاب وإياب، وتأشيرة دخول، وإقامة ليومين في فندق. مع تطمينات مزيفة بأن لديهم صلات مع حرس الحدود، التي ستسهل أمر عبورهم إلى بولندا.
وتنقل الصحيفة عن متحدثة باسم “مجموعة حقوق الأقليات”، وهي منظمة إنسانية دولية، أن المسافرين يتعرضون للخداع من قبل وكالات السفر، التي تخبرهم أن الحدود بين العاصمة مينسك وبولندا تبعد حوالي ثلاث ساعات سيراً على الأقدام”، وهي في الحقيقة تبعد أكثر من 320 كم. من جهتها، نفت شركة الطيران البيلاروسية المملوكة للدولة، بيلافيا؛ أي تورط من قبلها في الإتجار بالبشر، وزعمت أنها لا تستطيع التأكّد بنسبة 100% من أن وكالات السفر متورطة عن قصد في الإتجار بالمهاجرين”.
نهاية الحلم الوردي والاصطدام بالقوات البولندية
فور وصول المهاجرين إلى العاصمة البيلاروسية، يبدأ عمل المهربين، وتنقل “ذا غارديان” عن أحمد (29 عاماً)، وهو طالب حقوق سوري، قوله: “اصطحبوني إلى فندق في مينسك، ومن هناك أخذنا مهربون، تنتشر أرقامهم على صفحات في (فيسبوك)، مقابل حوالي 100 دولار، إلى الأسلاك الشائكة على الحدود”.
وتنقل الصحيفة عن مهاجرين كيف حشدت القوات البيلاروسية مجموعات تضم 50 شخصاً، ثم قطعت الأسلاك الشائكة الموضوعة على الجانب البيلاروسي من الحدود وسمحت لهم بالعبور.
وفي تلك اللحظة ينتهي الحلم الوردي بالوصول إلى أوروبا، ويبدأ الكابوس. فعلى الجانب الآخر، ينتشر ما يقرب من 20 ألفاً من عناصر حرس الحدود البولندي مدعومين بالجيش، في أكبر استعراض للقوة تشهده البلاد منذ نهاية الحرب الباردة.
يقوم حرس الحدود بصد المهاجرين بعنف، ويدفعونهم باتجاه الحدود البيلاروسية. وقد حاول بعضهم العبور عشرات المرات، ولكن قلة قليلة فقط هي من حالفها الحظ بالعبور.وعلى الرغم من وعود شركات الطيران التركية والبيلاروسية بوقف تدق المهاجرين والامتناع عن نقل المسافرين القادمين من سورية والعراق وأفغانستان ودول أخرى في المنطقة؛ فإنه يبدو أن الأزمة لم تنته بعد. ولا يزال آلاف الأشخاص عالقين في بيلاروسيا، إلى جانب آلاف آخرين يستميتون في الانضمام إليهم، هرباً من الحروب والفقر.
محمد السلوم _ العربي الجديد