اعتاد أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، على البروباغندا والحرب النفسية في خطاباته، وهذا أمر طبيعي، فالحزب ينخرط، منذ سنوات عديدة، بحروب داخلية وإقليمية، وله خصوم كثر، ويسقط له ضحايا بشكل دائم، وبالتالي يحتاج إلى خطاب سياسي لردع خصومه وطمأنة بيئته وتحفيزها على استمرار الوقوف خلفه، خصوصا في مرحلة تمدّده الإقليمي، وسعيه إلى السيطرة على القرار السياسي اللبناني.
وهنا تصبح المبالغة أداة ضرورية في هذا السياق، لجعل الآخرين يعيدون حساباتهم، ويراجعون تقييماتهم، ويخفّضون من سقف مطالبهم تجاه الحزب، فالهدف من المبالغة تشويش الخصم والتأثير على قراراته وسياساته، وخصوصا في ساحة المعركة. ولكن حتى يتحقّق هذا الأمر، يجب أن تكون المبالغة مدروسة بعناية، بحيث لا يستطيع الطرف الآخر التأكد من مقدار صدقيتها.
أما أن تصل إلى أرقام غير منطقية، مثل ادعاء أن لدى حزب الله مائة ألف مقاتل، فهذه ستكون مؤشّراً للخصم بأن الطرف الأخر مرتبك وخائف، ما يدفعه إلى اللجوء إلى تضخيم مبالغاته لتعزيز سلة أدواته من عناصر قوّةٍ لا يمتلكها. وهنا أيضاً ينسى نصر الله أن لدى الأطراف الأخرى وسائل رصد وأجهزة تتبع ومراكز دراسات وقوائم إحصاءات، فضلاً عن خبراء في جميع الاختصاصات، يحللون المعلومات ويفكّكونها، ويسقطونها على السياقات الاقتصادية والاجتماعية، ما يجعل من السهولة معرفة صدقها من كذبها.
من أين لحزب الله مائة ألف مقاتل؟ يطرح السؤال والمعروف أن الحزب لا يملك هيكلية عسكرية كاملة، وما زالت هيكليته تشبه هيكلية التنظيمات المليشياوية في سورية، ويستحيل أن يتجاوز عدد المقاتلين في هذا النمط الهيكلي عشرة آلاف في الذروة. ومن الطبيعي أن أغلب مقاتلي الحزب هم قوات مشاة، لأن الحزب لا يملك سلسلة من المعسكرات باختصاصات عديدة، وليست لديه فرق وألوية، وإنما تقتصر هيكليته على الكتائب والسرايا، وهذه أعدادها بالمئات.
ثم أين الاختصاصات التي تستوعب هؤلاء؟ فليس لدى الحزب قوات جوية ولا أسلحة مدرّعات، ولا هيئات أركان ومكاتب إدارية مختصة بالتسليح والتموين والإمداد اللوجستي، وأين جرى تدريبهم؟ من الصعب تأهيل هذه الأعداد الكبيرة بشكل سرّي، أين المعسكرات التي جرى تأهيل هذه الأعداد فيها، وتدريبهم على الرماية وإعدادهم بدنياً ونفسياً؟ماذا عن تكاليف تجهيز هذا العدد من المقاتلين المدرّبين المسلحين والحفاظ على جاهزيتهم؟ وحسب كلام نصر الله، فإن هؤلاء عاملون وليسوا احتياطيين، بمعنى أنهم مسجّلون على كشوف الرواتب ويتقاضون مرتبات شهرية.
ومعلوم أن متوسط الرواتب في لبنان بين 500 و800 دولار، ما يعني أن الحد الأدنى يصل إلى أكثر من 50 مليون دولار شهرياً، هذا عدا عن تكاليف إطعامهم وتجهيزهم وتسليحهم التي تبلغ ضعف هذه المصروفات. وعلينا ألا ننسى أن الحزب يدفع مرتباتٍ لأسر آلاف الشهداء لديه، ويرعى برامج ونشاطات اجتماعية مكلفة في بيئته، فمن أين له الأموال الكافية لذلك كله؟حسن نصر الله غير مطّلع على أحوال الجيوش وتفصيلاتها، ولا خبرة لديه بتقسيماتهاولعل السؤال الأهم: متى جرى تأهيل هذه الأعداد واستيعابها في هيكليات الحزب؟ إذ ليس سرّاً أن حزب الله، وحتى بداية الثورة السورية، كان يتبع من ناحية التنظيم العسكري لعناصره أسلوب الخلايا، لأسباب أمنية ولوجستية، ولا تتعدّى كل خلية عشرات العناصر، وفي أحسن الأحوال، كان لدى الحزب بين خمسة وستة آلاف مقاتل، في ذروة الحرب السورية، وفي عامي 2014 و2015، وكان يومها قد استدعى جميع مقاتليه.
ووثّقت تقارير إسرائيلية إفراغ الحزب لجبهة جنوب لبنان من المقاتلين، وصلت حينها أعداد مقاتلي الحزب إلى الذروة، وبلغ عددهم حوالي عشرة آلاف مقاتل، لكن جزءا كبيرا منهم كانوا دون سن الثامنة عشرة، وقد جرى تأهيلهم بسرعة، وأظهروا عدم خبرة كبيرة في المعارك، وقتلت أعداد كبيرة منهم. ولولا النجدة الروسية لخسر الحزب معظم مقاتليه، وهو خسر بالفعل قيادات الصف الأول جميعها، إضافة إلى المقاتلين القدماء الذين شاركوا في حرب 2006.
يبدو أن حسن نصر الله غير مطّلع على أحوال الجيوش وتفصيلاتها، ولا خبرة لديه بتقسيماتها، فالجيش السوري، وهو يعتمد على التجنيد الإجباري والتطوّع، وفي بلد عدد سكانه 22 مليون نسمة، ومساحته 185 ألف كيلومتر مربع، ولديه معسكرات منتشرة في كل الأرياف والمدن السورية، وترفده ميزانية دولة، إنتاجها القومي 60 مليار دولار، كان تعداده بين 250 إلى 300 ألف في أحسن الأحوال، فكيف يكون لطائفةٍ لا يبلغ تعداد أفرادها المليون ونصف المليون، ومساحة المناطق التي تسيطر عليها أقل من ثلاثة آلاف كلم هذا العدد من المقاتلين؟ من دون أن ننسى أن هناك منافسين للحزب داخل الطائفة الشيعية في لبنان، مثل حركة امل، وهناك معارضون للحزب، وأعداد كبيرة تقف على الحياد ولا تحب العسكرة، ومغتربون كثر، وطلاب جامعات، فليست كل الطائفة الشيعية معبأة.
ربما يقصد نصر الله الأفغان والباكستانيين الذين استخدمهم الحزب في معارك حلب رأس سهم، إذ كانوا يتقدّمون المعارك، بعد القصف الروسي، طبعا، ثم يأتي الحزب ويسجّل الانتصارات لنفسه. وقد يضيف مع هؤلاء المليشيات العراقية، فحزب الله الآن يضرب بسيف هؤلاء، ويعتبرهم جاهزين وتحت التصرّف إذا وقعت الحرب في لبنان.
قد يقول قائل إن لدى حزب الله أيضا أكثر من 150 ألف صاروخ لم يرها أحد، وليست موجودة ضمن معسكرات ولا قواعد. والحقيقة أن جهات إسرائيلية هي المصدر الوحيد الذي ذكر هذا العدد، ومعلوم أنها تلجأ إلى التهويل في هذا المجال، إما بسبب صراعات سياسية عسكرية لأهداف انتخابية ولإظهار فشل الحكومات الحالية، أو لأسبابٍ أخبث، غرضها إسكات الجمهور الإسرائيلي لزيادة ميزانيات الجيش، وغالباً لاستخدامها ذريعةً لتبرير ممارسة أقصى درجات القوة والعنف في الحرب على لبنان.لعل من الأسلم لحزب الله الابتعاد عن خطاب التهويل والإرهاب النفسي الذي يمارسه تجاه خصومه.
ومن الأفضل له ألا يصدّقه خصومه، كي لا يتورّط في حروب يقول بعدها “لو كنت أعلم ..”. وعليه أن يعلم أن حربه في سورية، إذا كان يعتبرها مثالاً على قدراته، لن تتكرّر، فلن يجد طائرات روسيا وأساطيلها، ولا إمكانات الدولة السورية التي وُضعت تحت تصرفه، وحتى الأفغان والباكستانيون والعراقيون تراجعت حماستهم كثيراً، فضلاً عن نضوب ميزانيات إيران.
غازي دحمان _ العربي الجديد