1ـ نهاية الشرق الأوسط القديم
يشكّل إخفاق سياسات الغرب في الشرق الأوسط الحدث الأبرز لهذا العقد. خسر الغرب أو هو على وشك أن يخسر كل رهاناته في المنطقة، فبدل نجاحه في ما أطلق عليه المثقفون والساسة الأميركيون بناء الأمة التي افترضوا غيابها، في العالم العربي، قوّضت التدخلات الأميركية في العراق وفي أفغانستان هياكل الدولة، ومزّقت النسيج الاجتماعي في البلدين، وأطلقت العنان لتنامي حركات التطرّف الطائفية، ومعها سياسات الارهاب، وآل حكم كابول إلى حركة طالبان. وانتهت سياسة احتواء إيران الخمينية التي عمل عليها الغرب عقودا طويلة إلى اجتياح مليشيات إيران معظم أقطار المشرق، وإلى زعزعة استقرار بلدان الخليج الغنية التي لم يتردّد بعضها في البحث عن الحماية في كنف تل أبيب المفترض أنها عدوة تاريخية لها.
وبدل أن تؤدّي سياسة العقوبات الطويلة وغير الناجعة إلى كسر شوكة النظام الإيراني، أخرجت المارد النووي من عباءة المرشد، لتضع المنطقة أمام احتمال سباق تسلّح نووي يستنزف قدراتها، ويهدّد بزجّها في أتون محرقة لا ينبغي الاستهانة باحتمالاتها.ولم تخفق واشنطن في تطبيق حل الدولتين لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي الذي سمّم حياة شعوب المنطقة أكثر من قرن فحسب، ولكنها أخفقت أيضا في ثني تل أبيب عن استكمال مشروع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية لقطع الطريق على أي أملٍ بقيام دولة فلسطينية في المستقبل. وبعد فشل ما سمّي التحالف العربي أو الدولي لإنهاء الحرب الكارثية في اليمن، تفاقم الصراع واتسعت رقعته وآثاره الكارثية. وهذا هو الوضع أيضا في معظم مناطق أفريقيا شمال وجنوب الصحراء التي تنخرها الصراعات والنزاعات والحروب الداخلية والخارجية تحت أنظار الدول الغربية، وأحيانا بمساعدتها ورعايتها.
وأحدث هذه الإخفاقات تصدّع التهدئة في لبنان أمام تصميم مليشيا حزب الله على تقويض سلطة الدولة والقانون، لتجنيب أنصارها المساءلة في قضية الانفجار الكبير الذي دمر مرفأ بيروت والأحياء المحيطة به.وبموازاة هذه الإخفاقات، تزايدت المخاطر من تحدّي الصين الصاعدة الهيمنة الغربية، الأميركية خاصة، على السياسة والعلاقات الدولية. وشيئا فشيئا، تبدّلت الأولويات الاستراتيجية، ووجدت واشنطن أن مصلحتها تكمن في تقليص إنفاقها على حفظ نفوذها في الشرق الأوسط لتوجيه موارد أكبر، عسكرية وسياسية وتقنية، لمواجهة الخطر الصيني والآسيوي المتنامي في العالم. وهذا ما ترجم بتخفيض استثماراتها المادية والسياسية فيها، وسحب معظم قواتها وقواعدها العسكرية من منطقتنا وحذفها من قائمة أولوياتها الاستراتيجية.تحمل هذه التبدّلات في الاستراتيجية الغربية مخاطر كبيرة على استقرار منطقةٍ تعيش أصلا أزماتٍ مزمنة منذ انفصالها عن الإمبراطورية العثمانية، ودخولها في الفلك الغربي الأوروبي، ثم الأميركي، فتهز توازناتها وتطلق ديناميكيات صراع متعدّد الاطراف بين مكوناتها، كما تثمير شهية الدول الاخرى التي تتصيّد الفرص لوراثة مواقع نفوذها في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ومثلما لعب صراع القوى الكبرى على الشرق الأوسط، منذ بداية القرن الماضي، دورا رئيسا في رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة، وتحديد ديناميكيات نزاعاتها الداخلية، وأيضا أشكال وحدود النزاعات المزمنة فيها وعليها، يفجّر انسحاب الغرب الاستراتيجي من مواقع عديدة كان يسيطر عليها نزاعات وحروب بمقدار ما يخلق من رهانات جديدة، وما ينتج من الطموحات والأطماع لدى الدول الإقليمية الأقدر على اقتسام مواقع النفوذ الغربي القديمة. وبمقدار ما يكشف من مواطن اختلال وضعف في بنى الدول والبلدان وتوازنات القوى الذاتية فيها، يحول الضعيفة منها إلى فريسة جاهزة وسهلة للطامعين فيها. ولن تتردّد الدول الإقليمية التي حققت قسطا من التقدّم الصناعي والتقني والعسكري، خصوصا في الدخول في التنافس على وراثة ما يمكن وراثته من إرث الإمبراطورية الشرق أوسطية الغربية المتهاوية، وفي السعي إلى الحصول على نصيبها منها.ولأن تراجع استثمار الغرب الاستراتيجي في هذه المنطقة التي لا تزال تتمتع، على الرغم من كل شيء، بأهمية استراتيجية، من دون أن يعني تخلّيها عن مصالحها الكبيرة فيها، تتقاطع فيها، كما هو واضح وضوح الشمس، الصراعات الإقليمية مع الصراعات الدولية مع السعي إلى تهميش النزاعات السياسية والاجتماعية واحتواء القوى المحلية وتشغيلها لحسابها.
هكذا بدل التدخلات العسكرية القديمة التي اتسمت بها السياسات الاستعمارية الكلاسيكية، تنحو الاستراتيجية الراهنة إلى التدخل من خلال إشعال الحروب الداخلية، والتلاعب بالقوى المحلية وتغيير موازين القوى من خلالها. وهذا ما يفسّر تنامي ظاهرة الحروب بالوكالة التي لا يقتصر استخدامها اليوم على دول الهيمنة الآفلة، وإنما يأخذ أحجاما أكبر عند الدول الإقليمية التي تطمح إلى الحلول محلها، واحتلال مواقع نفوذها السابقة، فلا تقلل هذه الحروب من التكاليف المادية والبشرية للقوى الدولية والإقليمية المتنازعة فحسب، ولكنها تخفّف عنها المسؤولية في الجرائم المرتكبة، كما تساهم في توسيع دائرة انتشارها من دون رادع. والأهم أنها تجعل أغلبها حروبا بلا نهاية، أي حروب مستحيلة وصفرية، حصيلتها الوحيدة الموت والخسارة المتبادلة. ولا يحسمها، في أفضل الحالات، إلا الإنهاك والخراب المتبادل ومنطق الحد من الخسائر وتوفير التضحيات الإضافية المجانية.
هذا ما حوّل المشرق إلى منطقة زلازل وتصدّعات جيوسياسية وسياسية وثقافية متناسلة، وإلى مسرح لحروب مركّبة تتداخل فيها النزاعات الدولية مع النزاعات الإقليمية مع النزاعات السياسية، الأيديولوجية والقومية والطائفية، أي بمعادلاتٍ معقدة ومتشابكة، مستعصية على الحل أو تكاد.وما من شك في أن لهذا الوضع، الاستثنائي في تعقيده، دورا رئيسا فيما آلت إليه ثورات الربيع العربي التي تحوّلت من انتفاضات سياسية شعبية وسلمية ذات محتوى ديمقراطي وتحرّري واضح، في البحرين واليمن والعراق ولبنان وليبيا وسورية، إلى حروبٍ دوليةٍ وإقليميةٍ وطائفيةٍ وقومية متداخلة. كما كان له أثره الواضح في تلغيم العلاقات العربية الإيرانية والعربية التركية، وفي توتر العلاقات بين دول الخليج وتفكّك مجلس التعاون الذي جمعها عقودا طويلة ماضية، وفي دفع بعض منها إلى البحث عن سبل جديدة للحماية في إسرائيل، و/ أو تبنّي سياسات راديكالية في التعامل مع المعارضة، والسعي إلى تجريمها وقتلها.الخاسر الأكبر في هذا الانقلاب الاستراتيجي كان القوى والحركات الديمقراطية التي راهنت في كل بلدان الشرق الأوسط على موقف قوي للغرب في دعم عملية انتقال سياسي وإصلاح اجتماعي، وفي مواجهة سياسات الإبادة المنظمة للمعارضات القائمة أو الوليدة من نظم تمرّست بالقمع الدموي، وأحكمت بالفعل سيطرتها على الدولة والمجتمع، وحصّنت نفسها أمام أي نقد أو احتجاج.
أما في سورية التي دفعت الثمن الأعلى لتنازع السياسات الدولية والإقليمية، فقد شكّل هذا التحول الاستراتيجي نقطة مفصلية في تطور الصراع والمواجهة الداخلية، ووضع مصير الدولة والبلاد والمجتمع أيضا، بالمعنى الحرفي للكلمة، على كفّ عفريت. هذا ما يعنيه تسليم الدول الغربية بفشل الضغوط الاقتصادية والسياسية التي اعتمدت عليها للتوصل إلى تسوية سياسية وعدم استبعاد خيار التعامل مع الأسد كأمر واقع وامتحان التعايش معه.لكن بالإضافة إلى ما يمثله هذا الموقف من تكريس للوضع التراجيدي القائم، وما ينطوي عليه من قبول باستمرار الحرب والفوضى والبؤس الإنساني المرتبط بهما أمرا واقعا أيضا، يوجّه التسليم بمثل هذا الـ”انتصار” للأسد ونظامه رسالة خطيرة إلى الشعوب والقوى الديمقراطية في العالم أجمع، فشرعنة بقاء الأسد، رسمية كانت أم واقعية، تعني عمليا، شرعنة استخدام الأسلحة الكيميائية وحروب الإبادة والقتل العشوائي، وإزالة كل الخطوط الحمر من أمام الأنظمة الديكتاتورية في حروبها الراهنة والقادمة ضد إرادة التحرّر لدى شعوبها، وفيما وراء ذلك، ضد الشعوب الأخرى.
وسيكون التطبيع الذي بدأت تتحدّث عنه بعض الحكومات العربية والأجنبية هديةً مجانيةً لا تقدّر بثمن لجميع مجرمي الحرب من الديكتاتوريين القائمين على رأس عملهم والقادمين، والمرشّحين لتكرار حروب الإبادة، وإشعارا سلبيا من المجتمع الدولي إلى الطغم المفترسة التي تتحكّم بمعظم أقطار الجنوب بأن منطق التشدّد والعنف وضرب الحائط بأي ضغوط عالمية، أو قيم إنسانية، أو مواثيق دولة، هو وحده المنطق الناجع لضمان البقاء في الحكم والاستمرار فيه.
2 ـ لماذا لن يستطيع الأسد الاستفادة من تراجع الغرب وانكفائه
لن يكون لانحسار اهتمام الغرب بالشرق الأوسط عواقب سلبية فحسب، فهو، بمقدارٍ ما، يكشف للمشرقيين هشاشة أنظمتهم وبنياتهم ويزعزع استقرار حكوماتهم، يفتح، لا محالة، عيونهم على القصور المستحكم في مؤسساتهم واعتقاداتهم وأساليب تنظيمهم وعملهم وتفكيرهم. ولا بد أن يوقظهم على مخاطر الاستسلام المديد لوهم الحماية الدولية، سواء كانت مرتبطةً بالثقة بقدرة الأمم المتحدة على إلزام الأطراف باحترام مواثيقها أو بقدرة الدول المركزية أن تفرض قرارها وتملي إرادتها على الجميع، فهذا لم يعد ممكنا في عالمٍ أصبح، بالفعل، متعدّد الأقطاب.وعلى الرغم مما يثيره هذا التراجع الغربي من شهية التوسّع لدى قوى جديدة تنتظر دورها لتحصد الغنائم، إقليمية كانت أم دولية، فإنه يفتح، في الوقت نفسه، شهية الشعوب المقهورة للانعتاق، وينهي ثقافة الاستسلام والإمعية التي سيطرت عليها قرونا، ويغذّي النزوع إلى أخذ الأفراد والمجتمعات مصيرهم بأيديهم، والاعتماد على قدراتهم ومبادراتهم. وبعكس الهيمنة الغربية التي لا تستمد قوتها من القدرة العسكرية فحسب، وإنما تمدّ جذورها في الدور الاستثنائي الذي لعبته الشعوب الأوروبية في تقدم المدنية والحضارة الحديثة، أي في أسلوب حياتنا الراهن ومخيلتنا وأفكارنا ومشاعرنا أيضا، تفتقر سيطرة القوى المنافسة مثل روسيا أو إيران أو الصين لأي شرعية أو عمق أيديولوجي أو عاطفي. وهي تخلق مقاومتها عند الشعوب التي تقع ضحيتها في اللحظة ذاتها التي تفرض فيها نفسها، ولا يبقى لها ما يمكّنها من الاستمرار سوى استعراض قدراتها على الاستخدام المفرط للعنف وارتكاب المجازر لتأديب معارضيها.فقد الغرب وسوف يستمر في فقد مزيد من نفوذه في العالم، لأنه لم يعد لهذا النفوذ جوانب بناءة تغطي على آثاره السلبية الحتمية. وقد أظهر في تعامله مع ثورات الربيع العربية، والسورية خاصة، افتقاره المتزايد لهذه الجوانب التعويضية. وكما كان لتردّده في تقديم الحماية، واسترخاصه دماء المشرقيين، دور كبير في خسارة هذه الثورات الشعبية رهاناتها، كان لذلك أيضا دوره في سقوط وهم الرهان على تضامن الغرب لتحقيق الحرية وحقوق الإنسان المنشودة التي كانت قضيته ومصدر هيمنته العالمية الحقيقية.بالتأكيد، سوف يحتاج الاستقرار في المنطقة زمنا طويلا، ولن يتحقّق إلا باستعادتها الحد الأدنى من استقلالها الجيوسياسي، وتقليص حجم التدخلات الخارجية، سواء كان ذلك في نزاعاتها أو في التسويات المطلوبة لإنهائها، وكذلك بحصول توازناتٍ أكثر استقرارا تعكس توزيع القوى الحقيقي والمهارات والكفاءات والإنجازات الحضارية داخل المنطقة ذاتها.هذا يعني أن علينا ألا ننظر إلى هذا التحوّل الاستراتيجي من جانبه السلبي فقط، فهو، بمقدار ما يحمل من الأخطار الفعلية التي ينبغي مواجهتها، يقدّم فرصا جديدة لتطوير قدرات الشعوب المادية والسياسية والأخلاقية للتصدّي لها، وإعادة بناء منظوماتها المعرفية والسياسية والاجتماعية على أسس أكثر تماسكا وفاعلية.
وكذلك الأمر فيما يخصّ العلاقات مع الدول الغربية التي ستبقى، على الرغم من انحسار نفوذها التدريجي في سدة الهيمنة العالمية، عقودا طويلة مقبلة.وبالمثل، لا ينبغي أن نعتقد أن ما تسبب في خسارتنا رهاناتنا سوف يساعد الأسد وحلفاءه على تحقيق أهدافهم وفرض مصالحهم بالقوة على حسابنا، فليس من المحتم أن تكون خسارة طرف ربحا للطرف الآخر. وما رأى فيه الرئيس الروسي نجاحا انتخابيا يجدّد شرعية الأسد ويبرّر إعادة تأهيله لا يرى فيه العالم إلا دليلا على الإمعان في احتقار الشعب والرأي العام الدولي، والاستهتار بالقيم الإنسانية، وانعدام الأهلية الأخلاقية والفكرية، والفشل الذريع في التجاوب مع أبسط واجبات مسؤول سياسي في السعي إلى تجنيب بلاده الكارثة، والحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها ووحدة الشعب وأمنه وازدهار أحواله. وفيما وراء ذلك، لن يقبل أي سياسي يحترم نفسه ومهنته أن يتعامل مع من سعى بيديه ورجليه إلى تدمير بلده وتشريد شعبه والقضاء على مستقبل أبنائه، من أجل كسب سنواتٍ إضافية في السلطة، بعد عشرين عاما من الحكم المطلق والفاسد إلا كقاتل ومسؤول عن جرائم حرب وإبادة جماعية.
وفي اعتقادي، جميع محاولات إعادة تأهيل الأسد اليوم أو غدا سوف تفشل. ببساطةٍ لأنه، أولا، من دون تغيير في الحكم وتسوية سياسية، وما تتضمنه من تغيير في قواعد ممارسة الحكم وتوزيع السلطات والصلاحيات، حل أي مسألة من المسائل العديدة والمعقدة التي ولدتها الحرب العدمية، وفي مقدمها مسألة بناء الدولة المفكّكة والمنحلة ذاتها، فلا يوجد اليوم دولة في سورية وإنما أجهزة وجيوش ومليشيات أجنبية متصادمة ومتنافسة، ومناطق منعزلة بعضها عن بعض، ومفتقرة أي إدارة مدنية جدّية.وثانيا، لأن النظام نفسه لم يعد نظاما، وإنما تحول شراذم وشللا وشبكات مصالح تنهش بعضها بعضا، كما أبرزت ذلك في الأشهر الماضية قرارات الحجز على أموال وحسابات آلاف من الصناعيين ورجال الأعمال، بمن فيهم عديدون من الموالين للنظام، بالإضافة إلى هجرة عشرات الألوف منهم الى خارج سورية.وثالثا، لأن الأسد يخطئ عندما يعتقد أنه لا يزال الابن المدلل للغرب بسبب تعاونه أو الحاجة إليه وإلى أجهزته الاستخباراتية في الحرب ضد الإرهاب، بعد أن اكتشف الجميع أن صانع السم شاربه. وأن اعتماده على حماية طهران وتماهيه مع سياساتها سببٌ إضافي لمقاومة بقائه.ورابعا، لأن الجميع يدرك أن ترك الأمور كما هي عليه في سورية والمشرق يعني العيش إلى جانب بركان متفجر لن يتوقف عن قذف حممه، وإشعال الحرائق في كل الأنحاء.وخامسا، لأن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل تضحيات السوريين، وإصرارهم على تحقيق غايتهم وانتزاع حقوقهم في الكرامة والحرية والسيادة على وطنهم، مهما طال الزمن واستدعى من تضحيات.وسادسا وأخيرا، لأن تخفيض الغرب مستوى استثماراته وانخراطه في قضايا المنطقة لا يعني أنه سوف يتجاهل، كله أو بعضه، أهميتها وموقعها في الاقتصاد والجيوساسة الدولية والثقافة، والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن انهيارها ودوام الحروب العبثية فيها أو تفاقم الإرهاب والهجرة والبؤس. كما أن تراجع اهتمام الغرب بقضايا المنطقة وتخفيض استثماراته فيها لا يعني التنازل عن مواقعه المكتسبة أو التخلي عنها لصالح القوى الإقليمية، كإيران وتركيا، ومن باب أولى لعصابة محلية. واعترافه بافتقاره استراتيجية أو حلولا ناجعة لمشكلاتها “المعقدة” لا يعني أنه لا يستطيع ولن يستمر في الدفاع عن مصالحه فيها، وتعطيل أي حلولٍ لا تخدم أهدافه أو تحرمه من إمكانية التأثير في مصير المنطقة. وهذا ما أملى على وزير خارجية واشنطن، أنتوني بلنكين، أن يشير، في كلمته التي خصصها أخيرا لسورية، إلى أن واشنطن سوف تسعى إلى “… المضي نحو تسوية سياسية أوسع (من تثبيت وقف النار) للصراع السوري تتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. مع التأكيد على أن “ما لم نفعله وما لا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل السيد الأسد، أو رفع أي عقوبة مفروضة على سورية أو تغيير موقفنا لمعارضة إعادة إعمار سورية قبل إحراز تقدّم لا رجوع فيه نحو حل سياسي نعتبره ضروريا وحيويا”
.3 ـ لن يتخلّى العالم إلا عمن يتخلّى عن قضيته
سيبقى نظام الأسد في طريق مسدودة مهما فعل. لن تنقذه لا إيران ولا الصين ولا روسيا، ولكنهم يساهمون جميعا، بالعكس، في إضعاف مركزه بشكل أكبر بمقدار ما يسخّرون بقاءه لانتزاع مزيد من المصالح على حساب الشعب السوري والشعوب المجاورة. والجميع يعرف أنه خسر شعبه إلى الأبد، ولن يستطيع أحدٌ بعد ذلك تأهيله، حتى لو أراد ذلك، فهو غير صالح للحكم، كما أن نظامه لا يملك أي أساس للبقاء.هذا يعني أن الصراع لا يزال وسوف يبقى مفتوحا، ولن يتحقّق أي سلام، ولن يكون هناك استقرار، ولا حل لمشكلات الدمار والخراب والفقر والبؤس الذي عم البلاد من دون تلبية تطلعات السوريين والاعتراف بحقوقهم التي لا تقبل التصرّف. ولن يعمل مرور الوقت إلا على تفاقم أزمة النظام وتفسخه وتنامي إرادة الشعب الغارق في المحنة إلى التغيير.
ومن هنا، أيضا، لا ينبغي أن نترجم تغيير سياسات الغرب، ونأيه بنفسه عن قضايا المشرق التي ساهم في تعقيدها، باليأس من المجتمع الدولي أو بالدعوة إلى مقاطعة الغرب أو بالاستهتانة بقوته وعدم العناية بتطوير العلاقات معه والسعي إلى كسب تأييده القضايا العربية على المستوى الشعبي أو الرسمي، واستغلال طاقاته الهائلة وتنوع تياراته وتعدّد أقطابه. بالعكس، علينا أن نترجم ذلك بالتأكيد على ضرورة العمل على حثّ مواطنينا على تحمل قسط أكبر من الجهد والمسؤولية في تحقيق غاياتنا ومقاصدنا، وأن نقلص من رهاننا على المساعدة الأجنبية، ونرفع من درجة انخراط شعوبنا في معركتها من أجل التحرر والتنمية الإنسانية. ما يعني أيضا أن نعمل مع القوى والاتجاهات الديمقراطية القوية فيه، ونشجّعها على أن تعمل معنا على قاعدة الندّية وإقامة علاقات متوازنة ومصالح متبادلة بدل القاعدة القديمة التي كانت تقوم على تسول الدعم وقبول الفوقية وسياسة الأمر الواقع، كما استقرّ عليه وضع هذه العلاقات منذ تأسيس دولنا.
وسوف يدرك الساسة الغربيون في الولايات المتحدة وأوروبا أنهم عندما يتقدّمون في هذا الاتجاه لا يحتاج الغرب إلى قواعد عسكرية، ولا الرهان على الطغم الاستبدادية، ولا شراء ذمم ضعاف النفوس من أجل الحفاظ على مصالحه وتطويرها، وسوف يكون من الأسهل عندئذ الوصول إلى تعاون بناء، كما هو الحال اليوم في العلاقات بين دول ديمقراطية تحترم جميعها مصالح شعوبها.والمهم، ألا نتقاعس في تحمّل مسؤولياتنا وألا نترك للمجتمع الدولي، لا للولايات المتحدة ولا لأوروبا ولا لروسيا ولا للصين ولا لغيرها، مسؤولية تحقيق ما علينا واجب إنجازه. وأنه حان الوقت كي نأخذ أمورنا على عاتقنا، وأن نتحمّل مسؤولياتنا الفردية والجماعية. وأن ندرك أن الغائب الوحيد، والذي لا يمكن التوصل إلى حل من دونه كان، منذ البداية، ولا يزال إلى اليوم، الشعب المؤهل والمنظم.
وإذا كان جيل المعارضة السابق قد فشل في تحقيق هذه الغاية بسبب الضعف البنيوي وفقر الدم والفكر الذي ميز الأحزاب والحركات السياسية في ظل نظام المحارق والاغتيالات والتصفيات الجماعية، فإن الساحة أضحت اليوم مفتوحةً أمام جيل جديد من السوريين الذين تحرّروا على الرغم من كل شيء، من رهاب الديكتاتورية وجاهزية الحلول الخارجية أو الدولية، وأصبح أكثر قدرة على المحاكمة السياسية والمشاركة على قدم المساواة مع أبناء الشعوب الأخرى في التفكير في إدارة الشؤون الإنسانية. وعليه، تقع اليوم مسؤولية إعادة تنظيم قوى المعارضة الديمقراطية وقيادة المرحلة المقبلة، من دون أن يعني ذلك إقصاء الجيل السابق الذي يكفيه فخرا أنه وقف صامدا في مقارعة نظام الاستبداد وتحدّي سجونه وتحمّل انتهاكاته واغتيالاته أكثر من نصف قرن.
لم يعد الأسد إلا شبحا يهيم في خرائب وطننا، ولن ينتهي إلا عندما نزيل هذه الخرائب، وأول عنصر فيها الشبح ذاته الذي كان أول صانعيها وصار جزءا منها. والمهم أن نؤمن أننا لا نهزم عندما نخسر معركة، ولكن عندما نيأس من تجاوز آثارها.
برهان غليون _ العربي الجديد