كل الممارسات والمخاطر التي تواجه النساء أو العابرين جنسياً، أو حتى الرجال الذين لا ينظر إليهم وفقاً للأدوار الجندريةالمقبولة في ثقافة المجتمع المصري تكون بالإضافة إلى آليات الحكومة الاستبدادية، انعكاساً لقلة الوعي والسلوكيات المجحفة والممارسات التمييزية السائدة في المجتمع خارج السجن.
“الحبس للرجالة” كانت هذه العبارة الأولى التي قرأتُها في الزنزانة التي دخلتها في فترة اعتقالي وسمعتها تتردد كثيراً على أفواه الجنائيين والسياسيين.
كل رجل تقريباً يردد هذا الشعار عند الشدة، ليهوّن على نفسه ما هو فيه، بإعطاء كل ما يواجهه معنى ينتمي للذكورة أو رمزاً يندرج تحت مفهوم البطولة. وأيضاً، لكي يواسي كل رجل “رجولته الضائعة” و”حريته المسلوبة”.
وكانت المفارقة أن الجدار الذي كُتبتْ عليه هذه العبارة يقابله من الجهة الأخرى سجن مخصص للنساء. وليس لديهن أي شعارات خاصة بجنسهن ليكتبنها على جدران السجن.
وأيضاً، لأن هذه الأماكن يهيمن عليها الذكور تاريخياً، يقلّ فيها الاعتراف بالاحتياجات المتعلقة بنوع الجنس وفهمها.
وهذه الهيمنة الذكورية للسجن تتجلى في أوضح صورها، في سجون النساء في الأدوار التي تلعبها “الشويشات” و”النبطشيات”، فهن من يقمن بالدور الكامل للرجل/المخبر/النبطشي/الجنائي.
قالت لي صديقة اعتقلت لبضعة أشهر في السجون المصرية،إنها كانت بصحبة إحدى النزيلات الحوامل في عربة الترحيل المتجهة نحو سجن القناطر، كان الجو خانقاً وحركة السيارة عنيفة ومتأرجحة، مما تسبب بنزيف متكرر للنزيلة الحامل نتيجة هذا الاهتزاز الشديد وعدم إمكانية الجلوس بثبات أو راحة على المقعد الحديدي الضيق والمتأرجح للسيارة.
كما أخبرتني الصديقة أن النساء في السجن عموماً يستخدمن المصطلحات الذكورية نفسها في حياتهن اليومية ويواسين بعضهن كذلك في أوقات الأزمة بعبارات مثل، “السجن للرجالة”، وهذا يعد أقصى درجة ممكنة من تطبيق واستيعاب سلطة الرجل من قِبل المرأة. والسجن عموماً هو أكثر الأماكن قبولاً لهذا النمط من التبني للسلطة وتطبيقه على المرأة من نفسها بنفسها.
مثل هذه المصطلحات الذكورية المنتمية إلى عالم السجن والتي يستخدمها الرجال والنساء على حد سواء، هي مصطلحات ومفاهيم وثيقة الصلة بالمجتمع خارج السجن، لأن عوامل الارتباط بين هذين العالمين متجذرة ثقافياً بسبب العلاقات المعقدة بينهما.
عنبر النساء من خلال نافذتي الضيقة؛ وممارسة العنف عن بعد..
على مدى فترة اعتقالي الطويلة في سجون كثيرة، كنت ألتقي ببعض النزيلات مصادفة في أماكن مشتركة للجنسين داخل السجن؛ كعربة الترحيلات وقاعة الزيارة ومستشفى السجن، والمدرسة المخصصة لعقد الامتحانات الجامعية والثانوية للطلبة السجناء/السجينات.
وعندما جرى ترحيلي إلى السجن المركزي وجدت هناك عنبراً كاملاً في مبنى مستقل للنساء. لم أدخل هذا المبنى أبداً بطبيعة الحال، ولكن كنت أسمع أصواته في أوقات التريض عبر شباك صغير مواجه للفسحة الذي تتريض فيها النساء كل يوم.
كنت أسمع زعيقهن يأتي من بعيد، وضحكاتهن العالية تخترق الجدارن والحواجز الجندرية التي بنيت بالخرسانة بين السجنين لتصل إلى أذني. وكان يتكرر كل فترة طقس الاحتفال بالسجينات المفرج عنهن، حيث تدوّي الأناشيد الفرحة والزغاريد، في الساعات الأخيرة قبيل خروجهن إلى الحرية. ورغم أننا في عنبرنا كنا نسمع أصواتهن وكن هن أيضاً يسمعن أصواتنا حين ننشد أو نحتفل أو نلعب الكرة.
لم يكوّن أحد منا مشهداً بصرياً للسجن الآخر. فقط عبر الأصوات المتطايرة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، يتخيل كل منا الحياة في الجانب الأخر.المرة الأولى التي قابلت فيها امرأة سجينة وجهاً لوجه، كانت في عربة الترحيلات، كنا مجموعة من السجناء الرجال نعبر بوابة السجن في طابورين متجهين نحو العربة التي سوف تقلنا إلى قاعة المحاكمة.
كنت أنا في آخر أحد الطابورين، وقدّر لي أن أكون رقماً فردياً زائداً على العدد الزوجي للسجناء الرجال الذين قُيّدتْ أيديهم بشكل تلقائي، كل يد في اليد التي تقابلها في الطابور الأخر، وتبقت يداي دون كلبشة، إلى أن خرجت سيدة في منتصف العمر من بوابة سجن النساء مرتدية “الشُّل” الأبيض، فكلبش السجان يدها في يدي، وركبنا العربة جمعياً.
هذا المشهد يعد من أندر المشاهد التي تحدث في عالم السجن، لأن الإدارة تحرص دائماً على الفصل الكلي بين الجنسين في السجون التي تحتوي على عنابر للنساء. بيد أن هذا المشهد النادر يعد دليلاً صارخاً على أن عربة الترحيلات هي أكثر الأماكن “العتبية” في السجن، أو كما تترجم أحياناً “بالبينية” أو “الحدية” كما يعرّفها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وهي الأماكن الحدودية التي تخضع لقوانين ذات طبيعة خاصة، تتميز في اختلافها عن القوانين المعروفة في الحالات “الطبيعية”.
حُشرنا جميعاً مقيدين داخل سيارة الترحيلات. أدخل السجان كل السجناء الرجال في القفص المصفح للسيارة ثم أغلق الباب عليهم بالقفل. وبقينا نحن الثلاثة، أنا والسيدة النزيلة والسجان خارج القفص في طرقة صغيرة في نهاية العربة بعد أن أغلق علينا بابها الرئيسي من الخارج. تحدثت النزيلة لأول مرة قائلة: معلش حد فيكوا معاه سيجارة؟ أخرجتُ علبة السجائر ودخنا نحن الثلاثة، ثم سألها السجان بنظرة متفحصة: إنتي جاية في ايه؟ أجابت المرأة بعد فترة قصيرة من الصمت بصوت متردد: آداب.
لاحظتّ أن هذا السؤال يعد سؤلاً طبيعياً في المطلق، وكثيراً ما يكون سبباً للتفاخر في عالم الجنائيين الذكور، لكنه يحمل نوعاً من الإهانة عندما يوجه إلى المرأة المسجونة.عندما يرد جنائي على سبيل المثال، أنه جاء في “تشكيل عصابي” أو “مخدرات” أو حتى “قتل”، فإنه يشعر بنوع من التباهي والشرف الذكوري أو “الذكوجنائي” وهو مصطلح أخترعه للتعبير عن الحالة الذكورية المكثفة التي تسيّر مجتمع السجن أدبياً وأخلاقياً نحو تصورهم لمفهوم “الشرف الجنائي”. وهو مفهوم له أدبيات وأخلاقيات ولغة خاصة ترتبط فيه الذكورية بالجنائية مكونة صورة فريدة.
هذا السؤال الذي يعتبره الجنائيون الرجال رمزاً للبطولة، عندما يوجه إلى إحدى النساء فإنه لا يخلو من وصمة مسيئة أو نظرة اجتماعية مريبة ومتشككة.
وهو سؤال يمكن أن يرتقي إلى نوع من أشكال العنف الذي يرتكب ضد النساء في أماكن الاحتجاز والحبس. وإن هذه الوصمة؛ وصمة العار المقترنة بسجن النساء، قد تصل إلى حدّ تخليّ أسرة المرأة عنها بمجرد إيداعها السجن. وعلى الرغم من أن المخاطر التي تواجه النساء في السجون، تعد أكثر بكثير من المخاطر التي يمكن أن تواجهن في الخارج، إلا أن معظم هذه المخاطر وممارسات العنف تكون صدى أو انعكاساً للأنماط الثقافية السائدة في المجتمع خارج السجن.
جاء في تقرير للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، بعنوان “النساء المحرومات من الحرية” ان العنف ضد المرأة “كثيراً ما يكون متأصلاً في القيم الاجتماعية والأنماط الثقافية ومعززاً بها. ونظراً لأن نظام العدالة الجنائية والمشرعين ليسوا بمنأى عن هذه القيم، لم يُعالج العنف ضد المرأة بالجدية ذاتها التي عُولجتْ بها أشكال العنف الأخرى”.
كما يقترح التقرير معالجة الأسباب الجذرية بالتوجه نحو العوامل الموجودة خارج أسوار السجن وحلها في سبيل حل مشاكل المرأة المكثفة ومخاطر تعرضها لسوء المعاملة والتعذيب داخل السجن.
بيد ان الانتهاكات الجنسانية التي تمارس على النساء في السجون المصرية تتخذ أشكالاً عديدة وصادمة. في حديثي مع صديقة، وهي معتقلة سياسية سابقة تدعى “س.ع”، أوضحت لي جوانب بعض هذه الانتهاكات الجنسية والعنف الجنساني المرتكب ضد النساء داخل أماكن الاحتجاز، ومنها، التفتيش الذاتي والتحرش واللمس والتهديد بالاغتصاب وإلقاء الشتائم والإهانات ذات الطابع الجنسي وتكبيل النساء بأدوات تقييد الحرية أثناء الولادة وإخضاع النساء لاختبارات العذرية ومنع المناديل والأقمشة الخاصة بالدورة الشهرية…إلخ.
تنص القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، بوضوح تام، على أنه ينبغي، كمسألة مبدأ، وضع النساء المحرومات من حريتهن في أماكن منفصلة عن تلك المخصصة للرجال، وذلك لحمايتهن من التحرش والاعتداء الجنسي.
ويجب فصل السجينات القاصرات عن السجينات البالغات من أجل حمايتهن من التعرض للاعتداء الجنسي وغيره من أشكال العنف على أيدي السجينات البالغات.
ومن المعروف أن “مصلحة السجون” في مصر،تقسم السجونَ التابعة لها إلى نوعين حسب الجنس، وتخصص أغلبيتها للرجال، أما النساء فتخصص لهن سجنين أساسيين لقضاء فترة العقوبة، وهما سجن القناطر وسجن الأبعادية في محافظة دمنهور. بينما تخصص لاحتجازهن أماكن في جميع الأقسام وفي معظم السجون المركزية في المحافظات إلى جانب الرجال. مما يعرضهن لهذه المخاطر ويعزز إمكانية الاعتداءات الجنسية عليهن.
بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد أماكن مخصصة للمثليين، ولا سيما الرجال الذين ينظر إليهم على أنهم لايعملون وفقاً للأدوار الجندرية المقبولة اجتماعية، مما يعرضهم لاحتمالية وضعهم في زنازين انفرادية طوال فترة احتجازهم كما يعرض المثليين من النساء والرجال، انتهاكات جنسانية الطابع بسبب ميولهم/هن الجنسية أو هويتهم/هن الجندرية. كما أنه لا يوجد في القانون المصري مواد لتنظيم مسائل العبور الجنسي وكيفية التعامل معها. لا سيما في السجون وأماكن الاحتجاز.
في قضية ملك الكاشف العابرة جنسياً، والتي تعرضت للاعتقال ثلاث مرات في مصر، منهم مرتين بتهمة ارتكاب جرائم “الآداب العامة”، تظهر الارتباكات في آليات التعامل مع مثل هذه القضايا في أماكن الاحتجاز من قبل القائمين على إدارتها، والتي تعرض العابرين جنسياً إلى أشد الاعتداءات الجنسانية داخل السجن.ملك الكاشف في أول مرة تم وضعها في حجز للرجال طوال فترة الاحتجاز، وفي المرة الثانية وضعت لمدة ست ساعات في حجز الرجال، ثم جرى نقلها إلى زنزانة انفرادية.
وفي المرة الثالثة التي تقول إنها كانت أصعبها، حين جرى ترحيلها من أماكن الاحتجاز إلى السجن، ظهرت هناك بوضوح آليات الدولة في التعامل مع قضايا العابرين جنسياً، وهي أن الدولة لم تهتم بمسألة ملك على الإطلاق، رغم أنها كانت بالفعل قد أجرت جزءاً من عمليات الجراحة التصحيحية قبل دخولها السجن، وكان لديها تقارير طبية/نفسية من مستشفى حكومية تابعة لجامعة الأزهر، توضح حالتها، ورغم ذلك لم تكترث الدولة لحالتها ولم تنظر لهذه التقارير، وتم التعامل معها بناء على بطاقة هويتها ومن ثمّ، جرى وضعها في سجن للرجال.
في النهاية، كل الممارسات والمخاطر التي تواجه النساء أو العابرين جنسياً، أو حتى الرجال الذين لا ينظر إليهم وفقاً للأدوار الجندريةالمقبولة في ثقافة المجتمع المصري تكون بالإضافة إلى آليات الحكومة الاستبدادية، انعكاساً لقلة الوعي والسلوكيات المجحفة والممارسات التمييزية السائدة في المجتمع خارج السجن.
محسن محمد _ درج