ليس لدى روسيا في لعبتها الجيوسياسية ما تفاوض عليه سوى تجربتها السورية. هي تعتبر أنها في بلاد الشام قدمت نموذجاً في العلاقات الدولية، يستند إلى قوانين الأمم المتحدة وموجبات الحرب على الإرهاب من دون خرق لسيادة الدول، بل استناداً إلى طلب سلطاتها الشرعية.
وقد مضى على التدخل الروسي في سوريا ستة أعوام كاملة من دون أن تتمكن موسكو من توظيف استثمارها السوري في فرض نموذجها السياسي أو حتى المساهمة بإحداث تغيير في الواقع السوري نفسه، فسوريا لا تزال مقسمة بين دول ومواقع نفوذ، واقتصادها يترنح نتيجة الحرب والعقوبات، والحلول السياسية تقف عند عتبة التجديد لبشار الأسد رئيساً لولاية جديدة طويلة.
تدرك موسكو أنها إذا سجلت خرقاً سياسياً في سوريا يحفظ مصالحها من جهة، ويستجيب للقرارات الدولية وموجبات “الانتقال السياسي” التي نصت عليها تلك القرارات من جهة ثانية، فإنها ستكسب الكثير من المصداقية في منطقة مليئة بالصراعات المتروكة من دون حلول، وستتمكن من إعادة تأسيس شبكة من العلاقات الدولية تعزز موقعها في ظروف حصار معلن تعانيه، ومخاطر جديدة محتملة قد يثيرها الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
والواقع أن هذا الانسحاب فرض على روسيا إقامة اتصالات مع حركة “طالبان” المصنفة إرهابية في موسكو، وجعلها تستنفر أصدقاءها القدامى في منظمة الأمن والتعاون (دول آسيا الوسطى المحاذية لأفغانستان، بالإضافة إلى أرمينيا وأذربيجان) لرفض إقامة قواعد أجنبية (أميركية) وعدم استقبال لاجئين أفغان على أراضيها خوفاً من “تسلل إرهابيين”.
وتنظر روسيا بقلق إلى الحزام الأطلسي المحيط بها من البلطيق إلى البحر المتوسط، وهي استقبلت بقلق تصريحات نائب وزير الدفاع الأميركي كولين كال أمام مؤتمر البلطيق العسكري في ليتوانيا بأن الصين “ربما تشكل خطراً أساسياً على الولايات المتحدة، غير أن روسيا قد تشكل مشكلة أكبر على المدى القصير”. وبحسب المسؤول الأميركي، فإن “روسيا خصم يزداد حزماً في سعيه الثابت إلى تعزيز نفوذه في العالم وأداء دور مزعزع على الصعيد الدولي، وسلوكها في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا يشكل تحدياً خطيراً “.
في المقابل، الأرجح أن تنظر موسكو بارتياح إلى النزاع الفرنسي – الأميركي في موضوع الغواصات الأسترالية وارتداداته الأطلسية المحتملة، وإن كانت لا تنزعج ضمناً من تعزيز الحضور الأميركي في شرق آسيا وأوقيانيا بمواجهة الصين شريكها اللدود.
كل تلك المسائل ستكون نهاية الشهر الحالي ضمن جدول اجتماعات الحوار الاستراتيجي بين أميركا وروسيا. والواقع أن الحوارات بين البلدين لم تنقطع منذ قمة رئيسيهما مطلع الصيف الماضي، وبما أن سوريا ستكون بنداً أساسياً في هذا الحوار، فإن موسكو استعدت بما يكفي في محاولة للخروج بنتائج مرضية في الشأن السوري، “نموذجها” المحبب في سياستها الخارجية.
زار الأسد موسكو على عجل بمبادرة منه، كما قيل في الصحافة الروسية، ولم يصدر بيان عن الزيارة إلا بعد عودته ووصوله إلى دمشق. طابع العجلة اتضح خصوصاً بعد ذهاب الرئيس فلاديمير بوتين إلى العزل بسبب تفشي كورونا في محيطه. ومع ذلك كان لديه الوقت للقاء الرئيس السوري الذي يشعر أن مستقبله ومصير سوريا على بساط البحث.وفي السياق، كان للقيادة الروسية سلسلة مواقف واتصالات مع المعنيين بالوضع السوري، نتائجها ستوظف في لقاء الحوار الاستراتيجي مع الأميركيين. فقد استقبل وزير الخارجية سيرغي لافروف نظيره الإسرائيلي يائير لبيد.
وعكست صحف روسية نتائج مباحثاتهما بالقول إنه لا شيء يعم صفو علاقات البلدين، لا هجمات إسرائيل على المواقع الإيرانية في سوريا، ولا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفي الوقت ذاته أكد لبيد للصحافة الروسية، “لا نستطيع التسليم بالوجود الإيراني في سوريا، ولذلك لن نجلس مكتوفي الأيدي.
هناك آلية لمنع الصدام مع الروس تعمل بشكل جيد. من المهم ألا تصاب القوات الروسية في سوريا”.إلى التنسيق مع إسرائيل، سيلتقي بوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبحث الوضع في إدلب خصوصاً، وعلى خط مُوازٍ ساعدت روسيا في قبول إيران عضواً في منظمة شنغهاي، الأمر الذي اعتبرته الصحافة الإيرانية تسهيلاً للضغوط على إيران للعودة إلى المفاوضات النووية.
وإيران هي شريك لروسيا وعقدة لها في سوريا. وأوضحت حصيلة مباحثات الأسد في موسكو أن مضيفيه ضاقوا ذرعاً بالمماطلة في تقديم الحد الأدنى من التنازلات، خصوصاً ما يتصل بعمل اللجنة الدستورية.
جاء الأسد معتبراً إعادة إحياء مشروع الغاز المصري إلى لبنان إشارة أميركية لفك الحصار عن نظامه وتخفيف الضغوط الغربية عليه، ليمعن تالياً في تعطيل عمل اللجنة الدستورية ومتطلبات القرارات الدولية في شأن التسوية في بلاده، إلا أن موسكو أوضحت له أن الأمر يتعلق باستئناف مباحثات جنيف للجنة الدستورية التي يحاول الأسد نقلها إلى دمشق، وليس حول تخفيف العقوبات، لتكثيف التجارة مع الأردن والحصول على الغاز المصري ودفع لبنان ثمن وصول الغاز والتيار الكهربائي إليه.
وفي هذا الإطار أبلغ الأسد أن المبعوث الدولي غير بيدرسون سيزور إسطنبول، وأن الموفدين الروس والأميركيين في شأن سوريا سيلتقون في جنيف، وأن “أمل الأسد الأخير هو في الكرملين”، بحسب ما عنونت إحدى الصحف الموسكوفية.
عاد الأسد إلى دمشق لتشيع أوساطه أن التركيز كان “على الشق الاقتصادي وتحرير باقي الأراضي السورية”، ورد مستشار في الخارجية الروسية بقسوة، “ما قيل لا يعكس موقف روسيا نهائياً، بل هو عكس ذلك تماماً، فلا بديل عن قرار مجلس الأمن رقم 2254، ومن استئناف عمل اللجنة الدستورية قريباً جداً”.
أكثر من ذلك توجه المستشار المذكور للقيادة السورية بالقول، “لا تنتظروا المعجزة، فالمجتمع الدولي لن يتمكن من مساعدتكم ما لم تبادروا إلى عملية الانتقال السياسي، وإنهاء القضايا الخلافية بين السوريين، وبخاصة ما يعتبرونه احتلالاً تركياً. ومن جانب آخر، الوجود العسكري الإيراني وتوسعه في المشاريع الاقتصادية وشراء العقارات وانتهاج سياسة التشييع”.
الرسالة الروسية إلى الأسد والسوريين واضحة: رتّبوا أولوياتكم بمقتضى المصلحة الوطنية العليا، وإلى الإيرانيين والأتراك، إن وضعكم رهن بعملية الانتقال السياسي، وإلى الإسرائيليين نحن معكم، وإلى الأميركيين تعالوا نتفق في لجنة الحوار الاستراتيجي ونجعل من سوريا نموذجاً لتعاون القطبين.
طوني فرنسيس _ اندبندنت عربية