استمر الطيران الحربي الروسي بتنفيذ الغارات على شمال غربي سورية، ضِمن مسار تصعيدي واضح أخذ بالارتفاع منذ السادس من أيلول/ سبتمبر الجاري.
ومن جانبها وجهت تركيا خلال الأيام الماضية العديد من الرسائل السياسية والعسكرية، كنوع من الرد على التصعيد الروسي الميداني.
أهم الرسائل السياسية التي وجهتها أنقرة، تمثلت باستقبال وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في التاسع من أيلول/ سبتمبر وفداً سوريّاً، يضم “سالم المسلط” رئيس الائتلاف السوري المعارض، و “أنس العبدة” رئيس هيئة التفاوض، إلى جانب “عبد الرحمن المصطفى” رئيس الحكومة السورية المؤقتة، ثم تأكيد الوزير التركي على أن الائتلاف السوري والحكومة المؤقتة هما “الممثل الشرعي للشعب السوري”.
اللقاء وما أعقبه من تصريحات، يمكن فهمه كرسالة تركية موجهة إلى موسكو من أجل دفعها للعودة للتهدئة من جديد، كما يمكن أن تكون رداً على النظام نفسه، والذي نفى قبل أيام وجود أيّ تعاون أو رغبة في التعاون بأي شكل مع تركيا.
وسبق أن لوَّح رئيس الائتلاف السوري المعارض “سالم المسلط” بالانسحاب من العملية السياسية، مطلع الشهر الحالي، مشترطاً أن يتوقف التصعيد على كل من درعا وإدلب.
وفي حال عرقلت أنقرة مسار العملية السياسية، فإن روسيا لن تكون قادرة على المضي قدماً في إنجاز حل سياسي يمكن تسويقه أمام المجتمع الدولي.
وعلى الصعيد العسكري، فقد تزامن اللقاء “التركي – السوري”، مع إعلان خمسة فصائل من الجيش الوطني السوري وهي: فرقة الحمزة وفرقة المعتصم وفرقة السلطان سليمان شاه والفرقة 20 ولواء صقور الشمال، الاندماج ضِمن “الجبهة السورية للتحرير”.الفصائل المندمجة منضوية ضِمن الفيلق الثاني، وهو من بين التشكيلات الأكثر قرباً لأنقرة، وتشير المراسم الاحتفالية التي حرصت الفصائل على تنفيذها، إلى إبراز تطوُّر فصائل المعارضة العسكرية السورية المدعومة تركياً، وزيادة تنظيمها وتكتلها بشكل أكبر.وكان وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، قد انتقد في التاسع من أيلول/ سبتمبر، عدم تنفيذ تركيا لاتفاق “بوتين – أردوغان”، الذي جرى توقيعه في آذار/ مارس 2020 حول إدلب، مؤكداً أنه لم يتم استكمال “فصل المعارضة العقلانية عن الإرهابية”.
ومن غير المحتمل أن تقوم تركيا باتخاذ المزيد من الخطوات في إدلب، في ظل عدم وفاء روسيا بالتزامها الخاص بمنطقة شمال شرقي سورية، والمتضمن إبعاد تنظيم “قسد” وحزب العمال الكردستاني عن الحدود التركية بعمق 30 كيلومتراً، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تتجه الأوضاع للتصعيد الميداني، إذ من مصلحة الطرفين البحث عن حلول لدفع التفاهمات إلى الأمام، إلا إذا شهدت الساحة السورية تطوُّرات جديدة ورغبة من الفاعلين الدوليين إلى تسخين الملف مجدَّداً.
الرسائل الروسية المحتمَلة من التصعيد في الشمال السوري
وكان نفّذ الطيران الروسي في السابع من أيلول/ سبتمبر غارات جوية على مخيم للنازحين قرب بلدة “معرة مصرين” شمالي إدلب، على مقربة من الحدود السورية – التركية، ممّا أدّى إلى سقوط خمسة جرحى في الأقلّ من قاطني المخيّم.
وفجر اليوم ذاته تعرّضت قاعدة عسكرية تركية في قرية الياشلي غربي منطقة منبج بريف حلب إلى هجوم صاروخي، تضاربت المعلومات حول الجهة المنُفّذة، وهل هي صواريخ أرض – أرض، أم غارات جوية، ممّا أدّى إلى مقتل جندي تركي وجرح آخرين.
ومن المحتمل أنّ الهجوم على القاعدة التركية قد يكون مصدره مجموعات عسكرية منتسبة إلى حزب العمال الكردستاني، إذ باتت هذه المجموعات في الآونة الأخيرة تشنّ هجمات غير منسقّة مع قيادة “قسد”، كما أنّها تمتلك قنوات تواصل مع موسكو.
ويبدو أنّ تزامن التصعيد ليس من باب المصادفة، خاصّة أنّ مصدر القصف على القاعدة التركية بريف حلب هي مناطق النفوذ الروسية غرب نهر الفرات.
ويمكن تفسير هذا التصعيد ضمن واحد أو أكثر من الدوافع التالية: 1.عدم رضا روسيا عن تبادل الأدوار الذي تقوم به تركيا مع الولايات المتحدة شمال شرقي سورية، والمتمثّل بشنّ تركيا الغارات على قادة محسوبين على “قوات سورية الديمقراطية” وينتمون لكوادر حزب العمال الكردستاني، في حين إنّ واشنطن تستثمر تلك الغارات لإقناع “قسد” بإنهاء وجود الحزب في مناطقها، ودفع الحوار الكردي – الكردي إلى الأمام، والذي سيكون بطبيعة الحال على حساب التقدّم في مسار تفضّله روسيا، وهو الحوار بين “قسد” والنظام السوري.
2. رغبة روسيا في الحفاظ على الأجواء المتوتّرة بين تركيا و”قسد”، لقطع الطريق على احتمالية فتح مسار تفاوضي بين الجانبَين برعاية أمريكية، فقد أعلن نوري محمود الناطق باسم “وحدات الحماية الكردية” استعدادهم لإقامة أفضل العلاقات مع الأطراف السياسية والقوى الدولية ومنها تركيا، وجاءت التصريحات في السادس من أيلول/ سبتمبر الجاري، أي بعد أيام قليلة من زيارة وفد أمريكي ولقائه مسؤولين في “قسد”.
3.رغبة روسيا في تقديم نفسها ضامناً قوياً يمكن الوثوق به في منطقة شمال شرقي سورية، ويبدو أنّ موسكو تريد استثمار الردّ الأمريكي الباهت على مطالبات “قسد” لواشنطن بوقف الهجمات التركية على مواقعها.فمن المهمّ بالنسبة إلى روسيا زيادة فعاليتها في الملفّ الكردي بهدف استثماره من أجل مصالحها.
4. تفاعل الائتلاف الوطني السوري المرتبط بعلاقات وطيدة مع تركيا مع ملف محافظة درعا، وتلويح رئيسه سالم المسلط بالانسحاب من العملية السياسية، وهذا السيناريو في حال حصل فإنّه سيحرم روسيا من إضفاء الشرعية على مكتسباتها العسكرية عن طريق تغليفها بعملية سياسية بموافقة المعارضة السورية.
5. استمرار المعارضة التركية بمسار تعويم نظام “الأسد” على الساحة الدولية، إذ أكد وزير الخارجية التركي في تصريحات جديدة صدرت عنه في السابع من أيلول/ سبتمبر أنّ “المفاوضات السياسية مع النظام السوري، واللقاء معه غير ممكنَين”، مشيراً إلى أنّ “النظام غير معترف به من قِبَل العالم”.
6. اتساع نطاق الخلافات التركية – الروسية في مجمل الملفّات، سواء في أذربيجان أو أكرانيا، ومؤخّراً الموقف التركي في أفغانستان، والتنسيق الواضح بين أنقرة وواشنطن من أجل ملأ الفراغ في مطار “كابول”.
ولا يعني أنّ مثل هذه الرسائل عبر الميدان ستتحوّل بالضرورة إلى مواجهة عسكرية، أو صدام مباشر، بل غالباً ما تأتي بهدف دفع الحوار على طاولة المفاوضات إلى الأمام، والعمل على تحسين شروط التفاوض.
المصدر: مركز جسور للدراسات