بات حالُ معظم السوريين الذين تحكمهم سلطات الأمر الواقع الأربع في الداخل السوري، أقرب ما تكون إلى حال السجين الذي استغلقت عليه سبلُ الخلاص وانعدمت المعطيات المادية الموجبة لخلاصه من السجن، وحرصاً منه على إبقاء نوافذ الأمل مفتوحةً، يصبح النزوع بل الاستسلام للتفكير بالغيبيات هو المنقذ من القنوط، فمهما بدا الإيمان بصرامة المنطق قوياً ومتماسكاً، إلّا أن ثمة قناعةً – ولو في حيّز ضيّق من النفس – بمشروعية “الحدث الاستثنائي” الذي من شأنه أن يقلب الطاولة أو يخلط الأوراق من جديد ويعيد المجال لافتتاح نوافذ أمل جديدة، أمّا عن مرجعية ذلك الحدث الاستثنائي المفترض، فربما تكون عند البعض القدرة الإلهية المتحكّمة بالوجود، وربما عند البعض الآخر طبيعة الصراعات القائمة بين الأطراف النافذة في الشأن السوري، وربما ثمة تفسيرات أخرى، إلّا أن الأهمّ من ذلك كلّه هو تسيّد الإيمان شيئاً فشيئاً بما هو استثنائي مُنتَظر، وفقدان الثقة تدريجياً بما تنتجه سيرورة الواقع، علماً أنه لا يخفى على الجميع أن ما يأتي به “الاستثنائي” قد يحمل في زوابعه ما لا يسرّ، ولكن مع ذلك يبقى محتفظاً بجاذبيته باعتباره حدثاً غائباً قابلاً للتوقع والتفسير.
أذكر في إحدى ليالي شتاء عام 1998 حدثت هزّة أرضية شعر بقوتها معتقلو سجن تدمر، إلى درجة أن الجدران الداخلية للسجن اتّسعت شقوقها، وانتشرت حالة شديدة من الهلع في صفوف الشرطة العسكرية، وخاصة ممن كانوا على أسطحة المهاجع يؤدون نوبة حراستهم، بعد ثوان انتهى الزلزال بسلامة ولم يُحدِث أيّ أذى في الأرواح، ولكن هذه النتيجة كانت مُحبطة للغاية لدى أكثرية السجناء الذين لم يتوقعوا خلاصاً من جحيم السجن إلّا من خلال حدث استثنائي، ولو حمل في طياته الموت لقسم منهم، الأمر الذي جعل من الزلزال في نظر كثير من السجناء فرصة ثمينة للخلاص، إلّا أنها – لسوء الحظ كما قال البعض منهم – لم تُؤتِ أُكلها.
حين يتجرّد المرء من الضوابط المنطقية للتفكير، ويغدو أكثر ميلاً نحو الاستسلام لنمط من التفكير العدمي، وذلك نتيجة لظروف حياتية لم يعد له القدرة على مواجهتها، فتلك أمارة دالّة على أن عوامل الخراب بدت أكثر قدرة على شلّ عوامل الحياة، وأن فداحة المأساة ووطأة المعاناة لدى الناس قد أفقدتهم القدرة على وعي مأساتهم وعياً صحيحاً أولاً، ليُتاح لهم التفكير بطريقة سليمة ثانياً، وحين تصبح عبارة “بدنا حدا يخلصنا ولو كان الشيطان” هي التعبير الأكثر شيوعاً على لسان عامة المواطنين، فحينئذٍ يبدو واضحاً أن النزعة العدمية لم تعد حالة فرد أو أفراد، بل باتت سمة طاغية على تفكير جماعات مختلفة من السوريين لم يعد لديها القدرة على التصالح مع عوامل قهرها و مهادنة البؤس المفروض عليها.
ربما بلغ اليقين لدى معظم السوريين الذين ما يزالون في أحضان الجغرافية السورية، وعلى اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم أن جذر المشكلة كان وما يزال موصولاً بالمشكلة “الأم” التي تتمثل بنظام الأسد الذي بات يجسّد وجوده واستمراره استمراراً للمقتلة السورية التي لن تنتهي إلّا بزواله، إلّا أنهم على الدرجة ذاتها من اليقين بأن سلطات الأمر الواقع المجاورة لسلطة الأسد لم تكن البديل الأمثل عنها، على الرغم من احترابها واشتجارها معها، ذلك أن حالة العداء والخصومة بين تلك السلطات، وإن كانت تعكس حالة من الصراع والتنافس، وربما التناقض القائم على تباين المشاريع والمرجعيات، إلّا أنها تلتقي مجتمعةً في سلوكها المشين حيال محكوميها، فالمواطن السوري مُتهمٌ بتهديد أمن تلك السلطات أينما حلّ، فابن مدينة حلب إن وُجد في مدينة الباب التي تبعد عن حلب مسافة 40 كم فقط فهو عميل لنظام الأسد، وابن مدينة جرابلس إن وُجد في منبج فهو عميل للجيش الوطني المدعوم من تركيا، وابن مدينة إدلب إن وُجد في القامشلي فهو عميل لجبهة النصرة، وابن القامشلي نفسه إن وُجد في عفرين فهو عميل لقسد، وهكذا تبدو عملية اتهام المواطن بالعمالة واعتباره مصدر تهديد لأمن السلطة، هي الاستراتيجية الأمنية المشتركة لدى جميع السلطات القائمة في سوريا، وبناء على هذا الافتراض الأمني تبني تلك السلطات سياساتها الاقتصادية والاجتماعية في مناطق سيطرتها، في حين يتنامى شعور المواطن بأن تلك السلطات ليست عامل تهديد لأمنه فحسب، بل مصدر إهانة وابتزاز وتقويض لكرامته ومقوّمات وجوده الأساسية، لكونها سلطات لا تمثله ولا ينبثق وجودها من خياراته، وإنما هي جميعها مفروضة عليه، تهينه وتعتدي على حقوقه، وتجد في قهره وترويعه وإسكاته السبيل الوحيد لاستمرار بقائها.
ولو تجاوزنا البواعث الداخلية والحياتية والممارسات السلطوية التي تدفع وطأتها الشديدة باتجاه العدمية في الوعي والتفكير، نجد أن ثمة بواعث أخرى لا تقل عنها تأثيراً، إلّا أنها مختلفة من حيث المصدر، أعني شعوراً جارفاً لدى المواطن في الداخل السوري بأنه قد أُبعد كلّيا عن حسابات المعادلة السورية، ولم يعد له أي دور في صياغة مصيره، فالقناعة بأن القضية السورية باتت بأيدي الأطراف الدولية بعيداً عن أي دور للسوريين، يعزّز من إيلام هذه القناعة وتداعياتها النفسية والحياتية ترويج النخب السياسية والثقافية السورية لها في الخارج، وسواء تمثلت تلك النخب والجماعات في الكيانات الرسمية للمعارضة أو في قوى وجماعات أخرى، فإنها جميعها قد أسقطت السوريين من حساباتها، وبات تتبارى وتتنافس، بل تتسابق على الوصول إلى بوابات الدول الخارجية، ليس إيماناً بدور متوازن للمجتمع الدولي لا يكون بديلاً عن موقف السوريين، بل يكمله ويتفاعل معه، ولكن اعتقاداً من هؤلاء بأن القضية السورية باتت سلعةً، والطرف الأجدر بالوصاية عليها هو الطرف الأكثر قدرة على تسويق هذه السلعة، في حين أثبتت الوقائع، وعلى مدى عقد كامل من عمر الثورة، أن نجاح التسويق لأي قضية مرهون بسلامة بنيتها الداخلية ومتانة أواصرها الشعبية فضلاً عن تماسك بنيانها الإداري والتنظيمي، وليس التشدق بشعاراتها واستهلاك سردياتها فقط.
النبرة العدمية التي باتت تعلو في الداخل السوري ليست قدراً مؤبداً، ولم تكن خياراً أثيراً لدى المواطن السوري، بل تكوّنت بفعل عوامل راكمتها النخب والجماعات السورية قبل أن تعززها العوامل الخارجية، وقد كان لها ما يماثلها لدى السوريين قبل آذار 2011 ، ولكنها تحوّلت إلى صيحة مدويّة وحراك ثوري رائع إبان انطلاقة الربيع العربي أواخر العام 2010 ، فهل ما نحتاجه – نحن السوريين – هو ربيع سوري جديد؟
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا