لا تحتاج الدولة التي فصّلها حافظ الأسد على مقاس مصلحته ومصلحة عائلته، إلى مؤامرة خارجية كي تنهار، فالدولة التي تتأسّس على القمع والفساد والمحسوبية، هي دولة آيلة للسقوط الحتمي، مهما تأخّر زمن هذا السقوط.
إن كان هناك من مؤامرة حقيقية على سوريا، وهو أمر معروف في العلاقات الدولية، فإن الجوهر الحقيقي لهذه المؤامرة – خلال فترة حكم عائلة الأسد – إنما يكمن أساساً، في دعم استمرار وبقاء نظام مثل نظام عائلة الأسد، فهذا الاستمرار هو كفيل وحده بانهيار الدولة، وتدمير المجتمع من الداخل.
إن القول بأن السنوات العشر للثورة السورية، وتآمر أطراف وجهات دولية هو الذي أوصل سوريا إلى الخراب الذي هي عليه الآن، هو كذب فاقع، وتجاهل متعمد ومتآمر لوقائع سنوات طويلة من صيغة الاستبداد، والنهب، والترويع التي حكمت سوريا منذ أن وصل حافظ الأسد إلى السلطة، ففي دولة الخوف لا يوجد أدنى إمكانية لمواجهة جدية وفاعلة، لأي من المشكلات التي تعترض كل المجتمعات في مسيرتها.
في الأيام القليلة الماضية شهد الساحل السوري حدثين مهمين، ليس لجهة نتائجهما السلبية المباشرة فقط، بل لدلالتهما الكبيرة في فهم بنية الدولة السورية، وفي فهم سبب هذا الحصاد المرّ لنصف قرن من المقامرة الغبية بالدولة والمجتمع.
الحدثان هما: تلوث المياه الجوفية في عدة قرى، تقع على الطريق الذي يصل طرطوس بصافيتا بسبب مكب للنفايات.
تسرب كامل مادة الفيول الموجودة في خزان كبير، يتبع لمصفاة بانياس الساحلية إلى البحر.
لايشكل هذان الحدثان مفاجأة كبيرة، لا سابق لهما في تاريخ التلوث، وانهيار البيئة في سوريا خلال العقود الخمسة التي حكمت فيها عائلة الأسد. فالأضرار التي لحقت بالبيئة السورية خلال هذه العقود، أفدح بكثير منهما، فهناك فضيحة النفايات الملوثة التي دفنت في سوريا مقابل مبالغ مالية كبيرة ذهبت لأشخاص متنفذين، وهناك الفساد الذي تسبب باستهلاك جائر للمياه الجوفية في كامل مناطق سوريا، وهناك كارثة توسع المساحات المتصحرة، وانهيار الغطاء النباتي، والتطرف في استعمال المبيدات الكيماوية، والتلوث البيئي الكبير الذي سببته مصفاة حمص للمناطق المحيطة بها.. الخ، لكن رد الحكومة على هذين الحدثين يوضح إلى حد كبير بنية الدولة السورية، وكيفية فهم قادتها لدور الدولة، ولمعنى المسؤولية، ومدى إمكاناتها على مواجهة التحديات.
كان رد محافظ طرطوس على مشكلة تلوث المياه الجوفية مثيراً للصدمة فعلاً، فالتلوث الذي حدث كان سببه الرئيسي قرار وضع مكب نفايات في هذه المنطقة أولاً، وثانياً، في عدم الدراسة المسبقة لتأثير هذا المكب على المياه الجوفية، وعلى البيئة الاجتماعية المحيطة، وعلى الصحة العامة، وغياب هذه الدراسة، يعكس مدى الارتجال والعبثية في قرارات الدولة، والمضحك المبكي أن المحافظ وعد بحل عاجل، لمشكلة تحتاج بالتأكيد إلى سنوات طويلة كي تحل!
لكن الصدمة الأكبر تأتي من متابعة ما تقوم به الجهات المعنية في معالجتها لكارثة تسرب مادة الفيول إلى السواحل السورية، حيث تتناقل وسائل إعلام عديدة صوراً لعمال سوريين يقفون على شاطئ البحر، وأمامهم بقعة كبيرة من الفيول الأسود، وهم يحاولون إزالتها مستعملين أيديهم العارية، و”الرفوش” و”القفف”، أية مهزلة هذه، وأية دولة فاشلة، وأي استغباء للعلم وللبشر!
بالتأكيد يصبح الحديث عن الفشل “الحكومي”، حيال المشكلات التي ذكرت سابقاً، لا أهمية له أمام الفشل الكبير لطريقة إدارة النظام السوري للدولة والمجتمع خلال السنوات العشر الماضية، وقبلها عشرات أخرى، فشلٌ أوصلَ سوريا إلى كارثة هي الأفدح في تاريخ البشرية الحديث، لكن تناول هذين الحدثين تحديداً هو لتجنب تعليق المشكلتين على شماعة المؤامرة الكونية، وشماعة الثورة السورية، لأن حدوثهما أمر متعلق بالدولة السورية فقط، وعندما تخفق أي دولة في إجراءات السلامة والأمان والرقابة، وفي منع أو تخفيف فاتورة أية كارثة محتملة، فإننا أمام دولة تفتقد الحد الأدنى من الكفاءة والقدرة على مواجهة الأزمات، وتصبح محاسبة المسؤولين في هذه الدولة ومساءلتهم، أمرا ضروريا من أجل سلامة المجتمع.
ما يصدر عن مسؤولين سوريين عقب هذه الكوارث، هو أكثر إحباطا من الكارثة ذاتها، فهل يكفي الحديث الممجوج عن دولة قانون، ودولة مؤسسات، وعن انتصار متوهم، ووعود مجانية حتى يسود الاطمئنان؟
في كل التفاصيل اليومية المتخمة بالألم والجوع، والحاجة للمواطن السوري، لا يوجد ما يطمئن على استقرار ممكن، فما من استقرار يتأسس على الكذب، وعلى القمع، وعلى إرهاب المجتمع وتخويفه، ولا يمكن لأحد أن ينكر مدى الترويع الذي واجهه، ويواجهه السوريون كلهم، سواء الأجيال السابقة، أو الأجيال الجديدة، التي تحاصرها الملاحقات الأمنية، والمداهمات لأماكن وجودها في المساجد، والبيوت، والمدارس والجامعات، وسجنها وتعذيبها استناداً على ما قد تجده الأجهزة الأمنية فى ذاكرة هواتفها المحمولة، أو صفحات التواصل الاجتماعي.
في الدول المستبدة، والتي يتحكم بها طغاة، وتغيب الدولة بمفهومها الحديث، فإن المقامرة بمصير هذه الدول يصبح مؤكّداً عندما تتعرض هذه الدول لتحديّات تهدد بنية الطغيان، ألم يقامر “صدام حسين” بمصير “العراق” في حروبه المجنونة، ألم يقامر “ملالي إيران” بمصير بلدهم عندما أهدروا إمكانات إيران الضخمة على مشاريع خرابهم، وساسة لبنان الذين أوصلوه إلى انهيار شامل، وكذلك طاغية دمشق وابنه، ألم يقامر كل هؤلاء بمصير ومستقبل بلادهم، فقط من أجل بقاء سلطتهم؟
عندما يختار الطغاة المقامرة بمصير مجتمعاتهم، عند أي مواجهة لاستحقاقات تطور هذه المجتمعات المقموعة، فإنّه من العبث والحماقة أن تدافع نخب وأحزاب هذه المجتمعات عن تبريرات الطغاة وتفسيراتهم، وربما يصح توصيف هذا الدفاع بالخيانة الوطنية، فليس من الصعب أن لا يدرك هؤلاء أن اللحظات الفارقة في تاريخ الدول تتطلب يقظة فائقة وحرصا شديدا، فالمستبد لا يتوانى عن المقامرة بحريّة القرار، وبسيادة الدولة، وأنه بمصادرته – أقصد المستبد – لآليات عمل الدولة ومؤسساتها، فإنّه يكبل يدي المجتمع ومؤسساته وأحزابه، وكل عوامل قوته، ثم يفتح الباب واسعاً أمام الآخرين لاستباحة هذه الدولة، وبالتالي فإنه لا يتيح للدولة أو المجتمع التقدم خطوة واحدة للأمام لمواجهة الأخطار المحدقة بهما.في هذه اللحظة تصبح مواجهة الاستبداد هي الأولوية الوطنية التي على ضوء نتائجها يتحدد مصير الوطن.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا