تدرك موسكو، قبل أيّ عاصمة أخرى، أنّ ما يحصل في درعا البلد، من خروقات وتعطيل لتسوية صنعتها قاعدة حميميم قبل ثلاثة أعوام، لا تنحصر نتائجه ضمن حدود درعا البلد، وتدرك أيضًا أن ما يحاك لها في دمشق وطهران والضاحية الجنوبية ليس إشعالًا لحرب لا تنتهي فحسب، بل هو طعنة لجهود روسيا في سورية ولتعهّدات قطعتها موسكو على نفسها، وتعلم أيضًا أن هناك عيونًا ترقبها في عمّان وتل أبيب وواشنطن وفي عواصم أوروبية، وأن كل هؤلاء يجعلون روسيا ووفدها المفاوض في الجنوب السوري يتحركون برويّة وبخطوات مدروسة، لأن الخطأ سيكون كارثيًا على 55 ألف مدني موجودين في الأحياء المحاصرة في درعا البلد، وكذلك على السياسة الروسية والنهج الروسي الذي أرادته موسكو في سورية، وفي هذا النهج دقّت موسكو على صدرها، عبر قادة حميميم، وأعطت كثيرًا من الوعود عام 2018، لتكسب رضا تل أبيب، وتأخذ موافقة واشنطن، وتضغط على عمان، للموافقة على تسوية مقابل شروط تعهدت موسكو بتأمينها، وأهمّها إبعاد ميليشيات إيران عن الجنوب السوري، وعدم المساس بالمدنيين، ومنح المعارضين نوعًا من الاستقلال الذاتي داخل قراهم وبلداتهم، بعد تسليمهم للسلاح المتوسط والثقيل، ووقف الهجمات على ميليشيات نظام الأسد.
تغيير القيادة الروسية لجنرالها المفاوض في درعا، “أسد الله”، جاء (بحسب بعض المصادر) بسبب الانزعاج الروسي من الأداء الذي مارسه خلال جولات تفاوضية عدة لم تُنتج شيئًا، إضافة إلى تهديده الصريح والمعلن بحرق مدينة درعا البلد، في حال عدم الاستجابة لطلباته، وبوجوب تبنّي كامل أجندة نظام الأسد وإيران، مخالفًا تعهدات القيادة الروسية التي أنجزت التسوية وتعهدت فيها ببقاء السلاح الخفيف، وتعهدت للمدنيين أيضًا بعدم التهجير من بيوتهم، وكان قدوم اللواء الروسي الجديد “أندريه” رسالة للإيرانيين ونظام الأسد معًا، أن لا أحد لديه حصانة، وأننا قادرون على تغيير كل شيء.
لكن الرسالة لم تصل، واستمر التخريب الإيراني لكل جولات التفاوض عبر العميد غياث دلة (ممثل الفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد) وعبر العميد لؤي العلي، رئيس فرع المخابرات العسكرية بالجنوب الذي يدين بالولاء لطهران، واستمرت خروقات الأسد أيضًا على درعا البلد.
روسيا التي تراقب المشهد في درعا البلد تدرك تمامًا أنّ ما يفعله نظام الأسد مردّه اعتبارات سياسية واعتبارات اقتصادية.في السياسة، لا مصلحة لنظام أسد في بقاء الوضع الراهن واستمرار الاستقرار في درعا البلد، خصوصًا بعد الفضيحة التي تسبب بها أهل حوران للنظام، ليس بسبب منع صناديق الانتخابات من الدخول لقراهم وبلداتهم ورفضهم المشاركة بمسرحية الانتخابات فحسب، بل أيضًا بسبب الكرنفالات التي انطلقت بكامل قرى وبلدات حوران، وهي تطالب بإسقاط النظام وترفض حكم الأسد، فضلًا عن ذلك، فالاستقرار يهيئ الأرضية لانطلاق الجهود الدولية في البحث عن حل سياسي تدرك فيه دمشق، قبل طهران، أنّ أي حل سياسي قادم -أيًّا كانت بنوده- يعني تمزيق أركان النظام، ويعني طرد كلّ الميليشيات الأجنبية من سورية، وهذا ما يرفضه بشار الأسد ويرفضه نظام الملالي في طهران، لذلك يريد الأسد أن تشتعل الجبهات، وأن تعود رحى الحرب لتضرب الساحات في سورية، وأن تحترق درعا البلد بمن فيها.
في الاقتصاد، ما يحدث في مناطقَ، يعُدّها النظام معقلًا لمواليه، سواء في اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس أو في دمشق وحمص وحماة فضلًا عن كامل الريف الساحلي، يشير إلى أن هناك نقمة شعبية وصلت إلى مرحلة العصيان، في ظلّ تدني الخدمات، وانتشار الجريمة، وغياب المازوت والبنزين والكهرباء والدواء، حيث أصبحت المواد الأساسية تؤخذ بنظام البطاقة (الغبية) حتى رغيف الخبز، فضلًا عن الرواتب التي لا تكفي الموظف لتغطية مصاريف الأسبوع الأول من الشهر، ولذلك بدأت الصيحات وعلت الأصوات، حتى عملية الالتفاف واتهام الحكومة بالتقصير، بعيدًا عن رأس النظام، لم تعد تنطلي على الناس الذين صاروا يوجّهون سهامهم إلى بشار الأسد مباشرة، وإلى زوجته أسماء، وإلى مستشارتيه السياسية بثينة شعبان والإعلامية لونا الشبل، وصاروا يصفونهم بأشنع الصفات، من دون خوف أو وجل. وبتلك الصيرورة، أصبحت مفاصل الحكم مهددة، بثورة الكرامة والحرية التي انطلقت عام 2011، وكذلك بثورة جياع أصبحت وشيكة على الأبواب. ولإسكات كلّ هؤلاء، بديدن النظام المعروف، تحت شعار: (لا صوت يعلو عن صوت البندقية)، لا بدّ لبشار الأسد وحلفائه في طهران والضاحية الجنوبية، الذين يواجهون المصير ذاته بثورات جياع أيضًا، من إعادة الحرب للساحات، لكمّ الأفواه وإخراس أصوات الجائعين والمطالبين بحقوقهم.
وتدرك موسكو أيضًا أنها فشلت في تطبيق التعهدات التي أعطتها لإسرائيل والأردن والولايات المتحدة الأميركية، بإبعاد ميليشيات إيران و”حزب الله” لمسافات تراوح بين 40_80 كم عن حدود الجولان والحدود الأردنية، وروسيا تعلم أنها أخلفت تلك الوعود، أو أنها لم تستطع الإيفاء بها، وأن الوجود الإيراني وانتشار ميليشياته في الجنوب السوري زاد، ليس أقلّ من 2_3 أضعاف تعداده، عما كان عليه قبل التسوية التي طبختها موسكو بالجنوب السوري، وقبل التعهدات التي قطعتها على نفسها، وأن ميليشيات إيران أصبحت في قرية حضر على الشريط الأمامي لخط فضّ الاشتباك الموقّع مع إسرائيل عام 1974، وهذا ما أغضب تل أبيب ودفعها إلى توجيه ضربات متعددة على مستودعات ومقار لميليشيات إيران على حدود الجولان، وأخيرًا، وللمرة الثالثة، أسقطت منشورات تحذّر فيها ضباطًا قادة في جيش الأسد من خطورة جعل مقار قيادة ألويتهم وفرقهم العسكرية ملاذًا للحرس الثوري الإيراني وقيادات “حزب الله” اللبناني.
موسكو اليوم في الملف السوري تعبر منعطفًا تاريخيًا يحتاج إلى قرار تاريخي، فالركون إلى مطالب الأسد الرامية لاجتياح درعا البلد يعني ضعفًا روسيًا ومجازر وانتقامات، لن يقف الغرب مكتوف الأيدي حيالها، ويعني تغولًا إيرانيًا في الجغرافية السوري، يهدد ليس أهل حوران والأردن فحسب، بل بلدان الخليج العربي التي تعتبر الأردن بوابتها الغربية، وتعني أن الغرب لن يعود للاستماع لما تقوله موسكو، لأنها غير قادرة على الإيفاء بتعهداتها، وعلى ضبط حلفائها، وليس ببعيد أن تتحول مفاوضات الحل السوري من موسكو إلى طهران، باعتبارها القوة الأكبر والقوة الممسكة بمفاتيح الحلّ وبالسلطة في سورية.
المنعطف الذي تعبره موسكو اليوم بالنفق السوري المظلم يرتّب على موسكو إعادة قراءة وترتيب أوراقها، فمن يعجز عن ضبط الوضع في درعا البلد، لا يمكن أن يكون قادرًا على ضبط الوضع على كامل الجغرافية السورية، ولن يكون قادرًا على لعب دور حقيقي وفاعل، في عملية إنتاج حلّ يحقق الاستقرار للشعب السوري بعد سنوات من الحرب، فالضعف الروسي اليوم والاستكانة والخنوع لإرادة الحرب الأسدية والإيرانية سيجعل الروس طرفًا ضعيفًا، وليس شريكًا مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية والمملكة العربية السعودية وتركيا في الضفة الأخرى.
الضعف الروسي في درعا البلد وطغيان القرار الإيراني الراغب في الحرب سيضعف وسيؤثر في الجانب الروسي حتى في مسار أستانا أيضًا، فمن المؤكد أن تركيا تراقب بعين حذرة ما يحصل في الجنوب السوري، والطرف التركي يراقب وينتظر خواتيم الحلّ في حوران، وبالتأكيد، أنقرة لن تنتظر مصيرًا للشمال السوري يشابه مصير التعهدات الروسية الفاشلة في درعا البلد وحوران، خصوصًا أن الخروقات والجرائم والمجازر التي ترتكبها موسكو وحليفها الأسد الآن، في أرياف إدلب، وخاصة في جبل الزاوية، زعزعت الثقة بين الأتراك والروس، بسبب وحشيتها ضد المدنيين، وبسبب تجاوزها لكل تفاهمات أستانا، ولأن شظى نيرانها وقذائفها بلغ أطراف النقاط التركية المنتشرة في شمال غرب سورية، وأوقعت عددًا من الجرحى والإصابات بصفوف الجنود الأتراك أيضًا.
موسكو تعلم أيضًا أن سور الصين العظيم امتدّ ليصل إلى أبواب دمشق، وقد طرقها، وكان الرد الأسدي، بدفع من إيران، مرحّبًا ومهللًا، وموسكو تعلم أن غضبها وانسحابها من سورية ليس خيارًا، لأنه يعني كارثة سياسية لن تحتملها جدران الكرملين، وستعيد لتذكّر الروس بكارثة الانسحاب المذلّ من أفغانستان، خصوصًا وهم اليوم يعيشون ويشمتون بالانسحاب الأميركي من أفغانستان، ولذلك لا ترفَ في الخيارات لدى موسكو في سورية.
أمام موسكو طريق أضاعته منذ انطلاقة الثورة السورية، كما أضاع “فيلق القدس”، القدسَ عن خرائطه، وعلى موسكو أن تعيد ترتيب أولوياتها ومصالحها وتحالفاتها في سورية، فالإيراني لم ولن يكون حليفًا لروسيا في سورية، والأسد لم ولن يكون شريكًا لروسيا في سورية، والعلاقات الوطيدة والدائمة تبنى مع الشعوب، لا مع حكومات زائلة وزائفة، وما يربطها سابقًا من علاقة قوية كان مع الشعب السوري ولم يكن مع عائلة الأسد.
فهل تُتقن موسكو فنّ الممكن وفنّ المتاح، وتُعيد رسم سياساتها وتحالفاتها وتموضعاتها وتعهداتها، وتَخرج، وتُخرج السوريين معها، من نفق مظلم مدمر، للبدء بإعادة إعمار البلد وإصلاح ما دمّرته الحرب؟؟ أم أنها ستبقى مع الأسد وإيران، في حروبٍ غير منتهية تحرق سورية وتحرق المنطقة، وتحترق معها موسكو؟!
أحمد رحال _ مركز حرمون للدراسات