في ساعة مبكرة من صباح 26 تموز 2007 وقع انفجار ضخم وغامض في قاعدة عسكرية تابعة للنظام السوري ومحاطة بحراسة مشددة في منطقة السفيرة بريف حلب، الانفجار أدى لمقتل ما لا يقل عن 15 عسكريا سوريا و10 خبراء إيرانيين وتحدثت تقارير صحفية وقتها عن مقتل ثلاثة مهندسين من كوريا الشمالية على الأقل في الانفجار، السلطات تحدثت يومها أن الانفجار وقع في مستودع ذخيرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة، لكن الحقيقة كانت أبعد بكثير عن مجرد ارتفاع بدرجات الحرارة، فالانفجار وقع أثناء محاولة تذخير صاروخ “سكود ” برأس حربي من غاز الخردل وأدى إلى انتشار كميات من غاز الخردل والسارين وغاز الأعصاب “في إكس”. لم يكن هذا الانفجار هو الحادث الأول في برنامج النظام السوري للأسلحة الكيميائية، ولكنه كان الأضخم على مايبدو، ولعل ضخامة الانفجار أجبرت النظام على الاعتراف به مع إخفاء حقيقته وحجمه، وأظهر الانفجار أهم ركنين في مسعى النظام لامتلاك الأسلحة الكيميائية وهما كوريا الشمالية وإيران، لكن ماذا عن روسيا؟ حسناً كما قد نستنتج جميعاً روسيا كانت حاضرة منذ البداية.
بداية الإنتاج
بدأ حافظ الأسد بالسعي للحصول على الأسلحة الكيميائية في مطلع سبعينات القرن الماضي، وكانت مصر أولى الدول التي حصل النظام السوري منها على السلاح الكيميائي حيث زودته بكميات محدودة من غازي الخردل والسارين قبيل حرب تشرين 1973، لكن الأسد رغب بامتلاك تقنية التصنيع وتم إرسال بعض الباحثين السوريين إلى ألمانيا الغربية لتكوينهم علمياً في مجال التركيبات الصناعية المؤثرة على الأعصاب، كما جاء في مقال بصحيفة “ميديا بار” الفرنسية.سيعتمد النظام على استيراد بعض المكونات من ألمانيا ودول أوروبية أخرى، بينما تولى الاتحاد السوفييتي إمداده بالتجهيزات والتدريب، واعتبر تقرير للاستخبارات الأميركية صدر في أيلول 1983 أن سوريا هي “المتلقى الرئيسي للإمدادات الكيميائية من الاتحاد السوفييتي”، حيث حصلت سوريا على التجهيزات وأنظمة خاصة بصنع وحفظ الأسلحة الكيميائية والتدريب من الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا، ويخلص التقرير إلى أن هذه الإمدادات التي يبدو أنها لن تتوقف تغني سوريا حالياً عن تطوير قدرات محلية لإنتاجها.
وصفة الكرملين لقمع الشعوب
وتحاول الاستخبارات الأميركية تفسير الدوافع السوفييتية خلف تزويد دول مثل سوريا بالأسلحة الكيميائية في تقرير آخر صدر في شباط 1982، حيث يقول التقرير بأن الكرملين وجد في السلاح الكيميائي فائدة كبيرة لحلفائه في قمع حركات التمرد الداخلية حيث تم استخدامه بالفعل في القتال في كمبوتشيا ولاوس وأفغانستان من قبل الحكومات التابعة للسوفييت، حيث يرى الكرملين فيه وسيلة “لكسر الإرادة والمقاومة عند القوات التي تتبع سياسة حرب العصابات، والتي تتمركز في ملاذات محمية يتعذر الوصول إليها”، وبرهنت الأيام على أن الهدف الأساسي من تطوير الأسلحة الكيميائية هو استخدامها لقمع الشعب السوري، حيث أحصت المنظمات الحقوقية 300 هجوم بالأسلحة الكيميائية شنها النظام السوري على المدن والقرى السورية منذ انطلاق الثورة السورية في 2011.
تجمع التقارير أن النظام السوري بات قادراً على تصنيع غاز السارين منتصف ثمانينات القرن الماضي ولكنه ظل محتاجاً لاستيراد مكونات كيميائية من الخارج، وبحسب “ميديا بار” تم إنشاء أول مركز لإنتاج السارين بالقرب من مدينة الضمير، شمال شرقي دمشق، بداية الثمانينات وعلى مدى عشر أنتج المعهد 3000، التابع لمركز البحوث الراسات العلمية، مئات الأطنان من غاز السارين، كما أنه بدأ منتصف التسعينات بتصنيع غاز الأعصاب “في اكس” ثم استبدله بغاز الخردل، وبحسب التقديرات الدولية كان النظام السوري يمتلك نحو 1000 طن من الغازات السامة (السارين وفي اكس والخردل) في عام 2011.
هل استخدم حافظ الأسد السلاح الكيماوي؟
في ورقة بحثية لجامعة هارفرد عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، صدرت في حزيران 2013، تنقل عن تقرير لمنظمة العفو الدولية “أمنستي” حول مجزرة حماة في عام 1982 بأن قوات النظام السوري استخدمت غاز السيانيد السام ” تم إحضار حاويات غاز السيانيد إلى المدينة، متصلة بأنابيب مطاطية بمداخل المباني التي يعتقد أنها تؤوي المتمردين، مما أدى لمقتل جميع سكان المباني”، وتنقل الورقة أيضاً عن داني شوهام، محلل استخباراتي سابق في الجيش الإسرائيلي، قله بأن نظام الأسد استخدم السيانيد في مجزرة حماة.
الجنرال الروسي.. وفاة ليست غامضة!
ذكرنا سابقاً أن النظام السوري بدأ بانتاج غاز الأعصاب “في اكس” في منتصف التسعينات، وقد قدم الجنرال الروسي أناتولي كونتسيفيتش، مستشار الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، خبرته لإنتاج هذا الغاز وأكثر من ذلك تقول صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن الجنرال الروسي كان يحاول بيع النظام السوري غاز “نوفيتشوك”، وهو الغاز الذي استخدمته روسيا في محاولة اغتيال الجاسوس الروسي المنشق سيرجي سكريبال وابنته يوليا في بريطانيا، ولكن لم يتم الاتفاق على ما يبدو.
كونتسيفيتش تحت غطاء حكومي روسي حيث وقعت الحكومة الروسية عام 1993 اتفاق تعاون مع النظام لإنشاء ما سموه “المركز البيئي” في سوريا وبعكس اسمه تحول لقاعدة عمل البرنامج الكيميائي السوري وكان كونتسيفيتش مسؤولاً عنه، وبحسب عالم الكيمياء الروسي فيل ميرزيانوف، الذي عمل في “معهد الدولة للأبحاث حول الكيمياء العضوية والتكنولوجيا” في موسكو من العام 1965 حتى العام 1992، زودت روسيا النظام بتقنية تصنيع غاز الأعصاب “اكس في”.
وبالعودة لكونتسيفيتش الذي، بحسب فورين بوليسي، تمكن من إقامة علاقات وثيقة مع رجالات النظام وحصل على مبالغ ضخمة مقابل المعلومات والمعدات، التي تمكن من تأمينها من أوروبا، لتصنيع “في اكس”، وتوفي كونتسيفيتش في 3 نيسان 2002 بظروف غامضة في أثناء توجهه من ددمشق إلى موسكو، ومما زاد من غموض وفاته أن ضريحه في موسكو كتب عليه أنه توفي في 29 آذار، ويبدو أن الرجل تم اغتياله ويبدو الموساد المتهم الأول حيث كانت إسرائيل حذرت موسكو من نشاطاته في سوريا.
الجميع يعلم
في أثناء البحث عن تاريخ برنامج الأسلحة الكيميائية للنظام السوري وبرغم الغموض وقلة التفاصيل إلا أن المثير أن تصريحات وتقارير غربية وإسرائيلية كانت ترصد هذا البرنامج ومراحل تطوره منذ انطلاقته، بالإضافة لأسماء الشركات لا سيما الغربية التي زودت النظام بعشرات الأطنان من المواد الكيميائية الضرورية للتصنيع، كما يبدو لافتاً الاستخفاف الإسرائيلي بالبرنامج وتأكدهم من أن النظام لن يستخدمه ضدهم، وكأن الجميع كان يعلم أن هذا السلاح لم يصنع ويطور ليشكل أي تهديد على إسرائيل وإنما لحماية النظام من شعبه، وهذا ما ثبت صحته، حيث عمد قائد سلاح الجو الإسرائيلي “أفيهو بن نون” في تموز 1990 إلى التقليل من أهمية التهديد الذي تمثله الأسلحة الكيميائية السورية، وأشار إلى أن سوريا لم تستخدم الأسلحة الكيماوية عام 1973 بالرغم من وجودها ورغم هزيمة الجيش السوري وتقدم القوات الإسرائيلية إلى مسافة 41 كيلومتراً من دمشق، وكان هذا التصريح العلني الأول من نوعه الذي يؤكد امتلاك النظام السلاح الكيميائي إبان حرب تشرين.
المصدر: تلفزيون سوريا