كنت أرى أن حلّ مشكلاتنا، طوال السنوات العشر الماضية، وقبلها أيضًا، يبدأ (نعم “يبدأ” فحسب) بالقراءة والتثقيف، ومن ثمّ الانتظام في مؤسسات سياسية ومدنية حديثة، وتنمية فضيلة الحوار استنادًا إلى قواعد ومعايير ديمقراطية. هكذا كنت أرى، وازدادت قناعتي به.
وكنت كلما أردت التصريح بهذا الرأي أشعر بثقله على الآخرين، بل وبسخريتهم؛ هل تريد منا أن نقرأ على وقع أصوات القصف، وفي ظل التدمير والتشريد والاعتقال؟! هذا نقد مفهوم، أنا نفسي كنت أراه رأيًا حالمًا وواهمًا، وكلاسيكيًا، على المستوى النفسي، لكنني، مع ذلك، كنت أراه حقيقة على المستوى العقلي، ومفيدًا على المدى الاستراتيجي، خصوصًا بالنسبة إلى الراغبين في أداء دور سياسي؛ السياسة بلا ثقافة أقرب إلى اللعب والتجريب والثرثرة غير المجدية.
هذا الحلّ لا يعجب كثيرًا من السوريين، ممن أُتيحت لهم سابقًا أو اليوم الفرصة للقراءة ورفع سوية الوعي، ربما لأنه يحتاج إلى بذل جهد دائم ومنظم، وصرف وقت طويل، والبشر عمومًا ترغب في الطرق السهلة والسريعة. لكننا جربنا، اعتمادًا على “حكمة” بعضنا، وعلى إرادة بعض الدول، هذه الطرق، وبدت لنا كذلك واهمة وغير موثوقة، بل مخربة ومدمرة أيضًا؛ مثل طريق التدخل العسكري وطريق السلاح اللذين كانا، وهذا طبيعي ومتوقّع، رهن إرادة الآخرين لا السوريين، وتناسينا أن السياسي الجيد، مثل التاجر الجيد، لا يصرف إلا من جيبه، ولا يعتمد على ما هو موجود في جيوب الآخرين.
هناك تساؤل منطقي؛ هل لهذه الطرق أن تنجح في منع القصف والتدمير والاعتقال والتعذيب والتشريد؟ بالتأكيد لا، لكن الطرق الأخرى لم تمنعها أيضًا، بل زادتها، وغيّرت كثيرًا من طبيعة الثورة السورية، وخطابها وحاضنتها، وأنصارها. ماذا يمكن أن تفيد الطرق هذه؟ ربما تستطيع أن تبلور تدريجًا تيارًا سوريًا وطنيًا ديمقراطيًا واسعًا يتجاوز الاستقطابات الحديّة الموجودة، ويقلِّل من حدة الانقسامات على أساس المذاهب والطوائف والإثنيات، ويحدّ من تأثير العصبيات بأنواعها المختلفة، ويفتح الطريق لتبلور نخبة ثقافية سياسية سورية يمكن لها أن تخلق رأيًا عامًا سوريًا، وهذه مسألة مهمة ومحورية لبناء نظام سياسي جديد ودولة سورية جديدة. أليس هدف الثورة بناء دولة جديدة ونظام سياسي جديد؟! اليوم، بعد عشر سنوات، وبعد تجريب كل الطرق السهلة، لا يوجد بين أيدينا شيءٌ ذو قيمة يمكن الاعتماد عليه أو البناء عليه، والفوضى والتشظي يسيطران على المشهد السوري.
بعد المحطات الجميلة واللافتة، بل والاستثنائية، خلال الأشهر الأولى من الثورة، أصبحنا محكومين بالغوغائية والشعبوية على المستوى السياسي. الغوغائيون والشعبويون موجودون في كل مكان، في القوى والأحزاب السياسية، وفي منظمات المجتمع المدني، وفي المنظمات النسوية، وبين رجال الدين وأتباعهم، وبين المثقفين أيضًا. سيطر النهج الغوغائي، رؤيةً وأداءً، في المحطات معظمها بدءًا من أواسط 2012.
هل انتهى النهج الغوغائي؟ لا، بل على العكس، فقد استشرى أكثر، وهو يتغذى اليوم من الهزيمة، بعد أن كان يتغذى في السنوات الأولى من وهم التفاؤل. فالهزائم لا تعلِّم الغوغائي، هذا إن اعترف بها، بل تزيده إصرارًا وتشنجًا وعصبوية، وأحيانًا تعطيه دافعًا للسير في اتجاه تخريبي انتقامي من الذات والآخرين.كتب كثيرون عن الغوغائية والغوغائيين، فما الغوغائية؟ ومن هم الغوغائيون؟
يمكن ذكر كثير من سمات التفكير والأداء عند الغوغائيين، لكن ليس حتميًا وجودها جميعها عند كل فرد منهم؛ الافتقاد إلى صفة التأمل، ثقافة سماعية، لا يقرؤون، القابلية السهلة للاستجابة للتحريض والتحشيد، السذاجة أو سرعة التصديق، الخفة، المبالغة في العواطف، الصوت العالي، هياج وصراخ لا رادع لهما ولا هدى فيهما، الفوضى والعشوائية، لا يلتزمون القوانين، التسرع والاستعجال، التفكير انطلاقًا من أسس ومعايير ذاتية، المعرفة بكل شيء، اليقين القطعي لحظيًا، آراؤهم لا تقبل الجدل والنقاش، معرفة آنية أو وقتية، النظر إلى الأحداث بطريقة معزولة عن بعضها، مواقف عاطفية وانفعالية، السرعة في تغيير مواقفهم، ينسون مواقفهم، مواقف متعدِّدة تجاه أحداث من طبيعة واحدة، التنقل السريع بين الإحباط والتفاؤل، ردات فعل غرائزية قاسية وغير محسوبة، القابلية للاندراج في سياق قبلي أو طائفي أو قومي متعصب، يجنحون إلى التطرف والعنف والهيجان، الردح أداة لتغطية عجز الذات أو لفرض أمر ما بأي طريقة، افتقاد المبدئية والاستعداد لتغيير آرائهم في أي لحظة، يسيرون وراء من يقدِّم لهم الأوهام، يكرهون من يدفعهم للتفكير، لديهم حاجة دائمة إلى راعٍ أو بطل أو قائد، يتخدّرون بالإنشاء الكلامي، ينجذبون ببساطة نحو سحر الكلام، تفتنهم لغة الشعارات البسيطة والقاطعة، لا يكلِّفون أنفسهم عناء البحث والقراءة والتقصي عن الأدلة والأحداث، شخصيات هلامية تحمل ثقة فارغة بالنفس، يتصرفون وكأن الدنيا تابعة لهم وطوع بنانهم، يعملون استنادًا إلى قانون الكل أو لا شيء، لا يؤمنون بالعمل التراكمي والتدريجي بسبب نفسهم القصير وقلة صبرهم… إلخ.
العقل الغوغائي عقل تجريبي، يدخل في تجربة ويخرج منها من دون أن يتعلم أو يراكم شيئًا جديدًا، وهو مستعد لتكرار التجربة عشرات المرات من دون أن يُتعب نفسه قليلًا في اكتشاف الجدوى والفاعلية.
وتتسم الممارسة الغوغائية باللامسؤولية، إذ يوظِّف الغوغائيون القضايا العامة ذات الطبيعة العاطفية والحساسة لدى شعب من الشعوب، بقصد تهييج البشر وتحريضهم في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم، وأهم الموضوعات التي يستثمر فيها الغوغائيون هي الدين، الطائفية، القومية، المرأة…إلخ.
لا يعرف الغوغائيون الخجل بمعناه الإيجابي، ولا يكترثون لشيء، وهم مغرمون بالفضائحية والأخبار الصفراء، ولا سبيل إلى الانتصار على الغوغائي عن طريق الحوار العقلاني، فالغوغائي يغلب أفضل عالم، لأن ديدنه تسطيح المشكلات والاستهزاء بالأفكار والأشخاص.
بعض الغوغائيين يقرأ، لكنه يركِّز قراءاته في مجالات لا تساهم في تطوير طرائق التفكير. قراءة الأخبار والتصريحات والبيانات السياسية لا تقدِّم شيئًا، ومثلها القراءات ذات الطابع الأيديولوجي. القراءة في الفلسفة والفكر والسياسة والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والفن، وغيرها من حقول الثقافة والمعرفة يمكن أن تغيِّر من أنماط تفكيرنا.
تؤدي الغوغائية إلى مزيد من التعقيد للأزمات والمزيد من الخسائر، لأن الحلول والبرامج التي يروِّجها الغوغائيون تفتقد إلى الحكمة والرؤية الاستراتيجية والمصلحة العامة. إن بساطة مفردات وعبارات الخطاب الغوغائي تجعله مقبولًا لدى أكثرية البشر أكثر من الخطاب العقلاني الذي يقدِّم حلولًا ومقاربات تتطلب جهدًا أكبر وتفكيرًا أوسع وزمنًا أطول.
اليوم، هناك، في كل لحظة، حدث أو صورة أو رسم أو موقف يجري استثمارها من سلطات استبدادية أو قوى أيديولوجية أو دينية أو أطراف خارجية أو قنوات فضائية، جهلًا أو مكرًا، بهدف تحشيد البشر، وإنتاج عاصفة من الحقد والكراهية، وربما التدمير والتوحش.
تقود السلطات القمعية البشر من خلال استخدام مخاوفهم الطائفية أو القومية، ويقود رجل الدين شرائح واسعة بسهولة نحو ما يعتقده صوابًا، فعامة الناس لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم، يستمعون إليه ويأخذون عنه من دون تفكير، لأنه يلبي عاطفتهم الدينية، ورجل الدين يعرف ذلك، فلا يترك حادثة اجتماعية أو سياسية من دون أن يبدي رأيًا فيها، وتراه يفهم في كل شيء.
والمشكلة لا تقل سوءًا بانتقال الغوغائية من استثمار مخاوف البشر والمزايدة بالدين إلى المزايدة بالوطنية أو المزايدة بالثورية، وأهم وسيلة تُستخدم في هذا الإطار تقسيم المشهد السياسي استنادًا إلى رموز وصور وأعلام وشعارات عامة واصطفافات غرائزية، ما يحوِّل الاختلاف أو التنوع إلى صراع بين الحق والباطل أو بين الإيمان والكفر أو بين الوطنية والعمالة أو بين الثورية واللاثورية.
حازم نهار _ المدن