لا يمكن أن يجري النقاش بشأن الثورة السورية دون أن يذكر الموقف الأميركي، ويكاد هذا الموقف لا يُذكر إلا في سياق سلبي، لا لأن واشنطن ظلّت تتفرج طيلة عقد على ذبح سوريا وشعبها وثورتها بسكين أحد أكثر النظم العسكرية همجية، بل لأنها كانت تدّعي غير ذلك، أو هكذا توحي، أي أنها قدّمت الكثير للشعب السوري، ولم يحدث أن ورد اعتراف رسمي بالفشل.. هذا الوهم والادّعاء يجعل من مقولة “خذلان الولايات المتحدة للقضية السورية” كثيرة الاستخدام والتداول، فهل هي صحيحة؟
الاستراتيجية الكبرى
كان فورد يقول بشكل غير مباشر لن ندعم ثورة عسكرية، رغم أن الجميع كان يجزم أن مآل الثورة السلمية هو اللجوء إلى السلاح، لأن المعلوم بالضرورة حينها أن النظام قد حسم أمره، وخصوصاً مع أول خطاب لبشار الأسد، بمواجهة الانتفاضة بعنف لا حدود له، والعنف المفرط يولد ردة فعل في المقابل، أي أن حمل السلاح لم يكن خياراً، ولم يكن مفاجئاً لأحد، وعليه بدأ الجميع بالتفكير، لا بتسليح المعارضة، بل بكيفية التسليح بما يضمن رسم أهداف محددة، وفي هذا السياق، فحتى النظام السوري كان له بشكل أو بآخر مصلحة في تسليح الثورة، من أجل جرها إلى الملعب الوحيد الذي يجيده، وهو القوة والإجرام والقتل.التأجيج وتوازن القوة لا يخفى على أحد أن المعارضة السورية حين سيطرت على ثلاثة أرباع سوريا، وكانت قاب قوسين أو أدنى من اقتحام دمشق، والسيطرة على حلب، أهم حاضرتيْن في سوريا، إنما تحقق بسلاح بسيط، وإمكانيات أبسط، لكن بفعالية أدهشت الخصوم والأصدقاء على السواء، وأربكت الجميع، ومن هنا بدأت التدخلات فعلياً.ما سبق يُفسر ما يشبه الصمت أو التسهيل الأميركي وفي بعض المحطات بطلب من واشنطن، لتغوّل إيران في سوريا ومعها جحافل الميليشيات التابعة لها بما فيها حزب الله اللبناني، وكذلك فتح ممرات لوصول آلاف الجهاديين إلى البلد، أو فتح زنازين النظام، والنظام العراقي، للإفراج عن بعضهم، وصولاً إلى التدخل الروسي المباشر عام 2015.
تغذية قوة الأطراف بالتوازي وبشكل مدروس من جهة، وحرمان الثورة وأهلها الأصلاء وسلاحها الوطني من الدعم الفعال والحقيقي من جهة أخرى، كل هذا شكّل عناصر الوصفة الأميركية التي يأكل منها الجميع اليوم، باستثناء الشعب السوري بطبيعة الحال، والذي كان مجرد ميدان للتجارب العسكرية والسياسية، والثمن فادح، الملايين بين قتيل ومعتقل ومهجر.وعلى هذا الأساس، ضبطت إدارة أوباما إيقاع تدخلها في سوريا، أو قل الاستثمار في سوريا، لصالح ملفات أخرى تراها أكثر أهمية، وفي مقدمتها ملف إيران النووي.لم تكن خطوط أوباما الحمراء، والتلويح بضربة عسكرية إلا مناورة حذرة لكن مجدية، انتُزعت بموجبها التسوية المطلوبة أميركياً من إيران في ذلك الوقت، ومن ينسى حين خرج وزير الخارجية الأميركي حينذاك بالتزامن مع التلويح بالضربة ليقول: “إن الصفقة تمت”، وبعد ذلك التصريح تبخرت التهديدات، ولم يبق من لون أوباما الأحمر سوى دماء السوريين.أي وبالمحصلة، أوباما لم يخذل الشعب السوري، بل غشّه وتاجر به وبقضيته بأسلوب لا تستخدمه إلا دول مثل روسيا والصين، وترى الولايات المتحدة بأنها تتفوق عليها أخلاقياً، لكن في سوريا جميعهم اختاروا المستنقع ذاته.ودليل أن واشنطن أرادت ما حصل، أنها تدخلت عندما أرادت التدخل، وفي المكان الذي تريد، وبالقدر الذي تقدره، وتحت اللافتة التي تكتبها، وتختار هي الشركاء. تدخلت تحت لافتة محاربة تنظيم “داعش”، وهو نتيجة من نتائج الفوضى التي تسبب بها الأسد، وسخرت كل دعمها بشكل سخي لطرف واحد، لتوظفه لاحقاً في صراع آخر مديد، أو تُمدد به الصراع والحرب الجارية، لأن حليفها المتمثل بالوحدات الكردية، لديه الاستعداد أن يقاتل الجميع لأجل أهدافه المعلومة، وهي ليست كرمى عيون الكرد، بل تلبية لطموحات سلطوية لحزب العمال الذي، مثله مثل أي حزب شمولي، سيُبتلى به الكرد كما ابتلينا نحن العرب بحزب البعث يوماً ما.
اللحظة التاريخية الخاطئة
ورغم ما ورد آنفاً، لا يمكن إنكار أن الثورة السورية بوصفها لحظة تاريخية فارقة، جاءت في توقيت راكم معه المجتمع الدولي مخاوف تجارب سابقة من أفغانستان إلى العراق إلى ليبيا، وكان طبيعياً أن تهيمن تلك التجارب كهاجس حين تُطرح سوريا على الطاولة.بالعموم، إدارة أوباما لم تترك شيئاً للصدفة وللعجز، بل فعلت ما خططت له وأرادت فعله بدقة، وخصوصاً اعتبار سوريا ومأساتها كتفصيل ثانوي يرتبط بقضية رئيسية هي إيران وسلاحها النووي وتدخلاتها الإقليمية الآخذة بالتوسع، ولعل كلمة أوباما لا تزال عالقة في الأذهان حين قال بعد توقيع اتفاقه النووي مع طهران: “المهمة قد أنجزت، لا أريد سماع شيء بشأن سوريا”!!، وبهذا ذهب أوباما ولعنة السوريين التواقين إلى الحرية تلاحقه، وهم الذين فرحوا ربما لتوليه الرئاسة بوصفه رمزا للانتصار التحرري الإنساني، لكن هيهات.
شواهد الغدر تلخيصاً لما سبق ولإثباته، سأضع هنا شواهد أنقلها بحكم معايشتي للواقع الميداني:أولا: إن كانت واشنطن تريد لروسيا التورط في سوريا والغرق في رمالها على غرار تجربة سلفها الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، فلما لم تزود الجيش الحر بمضاد الطيران، والذي كان كفيلاً، لا بإسقاط النظام فقط، وحماية الملايين بكلفة أقل مما تنفقه واشنطن اليوم على المساعدات، بل كان سيؤلم روسيا حقاً، وحليفتها إيران.ثانيا: غرفتا “الموك والموم” لمن خبرهما جيداً، كانتا بالدرجة الرئيسية تعملان على مراقبة الثوار عن كثب، ومع الدعم المقنن والشروط القاسية وطلب الخطط مسبقاً، فإن النتائج في كل مرة، كانت خسارة الثوار منطقة تلو أخرى، والواقع فإن المعارضة لم تخسر إلا بعد تشكيل الغرفتين المذكورتين أعلاه.ثالثا: كبحت غرفتا الموم والموك بكفاءة استراتيجية فتح معارك متزامنة للتخفيف عن المدن التي تتعرض لحملات عسكرية شرسة من جانب النظام. رابعا: إن كان دخول التحالف لقتال داعش، وليس لتورية الدعم المقدم للوحدات الكردية، لما لم يقدم التحالف الدعم المطلوب لمعارك المعارضة ضد داعش، علماً أن قتال المعارضة لداعش بدأ قبل 10 أشهر من بدء قتال الوحدات الكردية لها، والتي لم تفعل ذلك إلا بعد حصار مدينة عين العرب- كوباني. بل المفارقة أن توجهنا في ذلك الوقت كجيش حر وطني إلى المدينة لمشاركة الكرد قتالهم ضد تنظيم داعش لم يلقَ لا الرضى ولا الدعم الأميركي، بل جوبه بالسخط، فلماذا؟
“الحيوان” وترامب
لم يكن يتخيل المرء أن يسمع رئيس أكبر دولة في العالم يصف أي رئيس آخر ب”الحيوان”، لكن ترامب فعلها، ورغم أنه صاحب شخصية مزاجية من الصعب توقع أفعالها، إلا أن التفاؤل عاد إلى إمكانية لعب واشنطن دوراً أكثر جدية معه في سوريا، خصوصاً أنه كان رافضاً لإرث أوباما بالمطلق، بما في ذلك إيران.لكن ترامب وأوباما، في القضية السورية، تشابها في كل شيء رغم اختلاف المبررات، سوى أن ترامب لم يزبد ويرعد ويعد كما فعل أوباما، وضوحه على الأقل كان ربما الميّزة الوحيدة.وعليه، فقد استكملت روسيا في عهده هيمنتها على المشهد السوري، ومعها إيران وبقية العصابات، وتكاثرت الاحتلالات، ووصلت إيران إلى تخوم الجولان السوري المحتل، وانحسر السوريون الأحرار وثورتهم وسلاحهم فيما بقي اليوم من أراضٍ، ربما كان ترامب جاداً فعلا في منع اقتحام إدلب لتعقيدات سيفرضها مثل هذا السيناريو، إقليمياً ودولياً.وأما فيما يتعلق بقانون قيصر، فهذا لا يُحسب لا لأوباما ولا لترامب، ولا يهم في عهد مَن كُتب، ولا في عهد من أُقر، فهذا القانون تحديداً، والحديث يطول بشأن تفاصيله، الفضل فيه لقيصر أولاً، الذي وضع الأميركيين في ورطة أخلاقية صعبة، وثانياً لللوبي السوري في واشنطن، وثالثاً لأعضاء الكونغرس، ولو لم يُلحق القانون بميزانية وزارة الدفاع لما أُقر، أكان ذلك في عهد أوباما أو ترامب.. لا يهم.وها نحن اليوم، مع ثالث رئيس أميركي منذ انفجار ثورة السوريين العظيمة، وربما أول ما يخطر في بال السائل، ما الذي سيفعله بايدن رئيساً ولم يفعله حين كان نائب رئيس؟ وأي جديد وهو يحيط نفسه بإدارة تحمل ذات نَفس إدارة أوباما.من المبكر الحكم على ما قد يفعله هذا “الأوباماوي” العجوز، السياسي المحنك، إما لأنه سيسعى إلى وضع بصمته الخاصة كرئيس، أو لأن القضية السورية قد اختمرت فعلاً بناء على وصفة “أعطِ للحرب فرصة”، وأن الحالة اليوم قد أينعت وحان فصل القطاف.اليوم، ومجدداً، روسيا تُصعد، وأميركا تتحدث عن مساعدات وفتح معبر أو اثنين، لكن كل ذلك يجري بالتزامن مع مفاوضات فيينا، حيث نقاش الملف النووي الإيراني، ولعل ما يحدث في سوريا لا يتجاوز كونه حلقة إضافية، ستتكشف نتائجها في الطريق بين طهران وواشنطن لا بين إدلب ودمشق، وليس حرياً بنا، نحن السوريون، أن نلدغ من جحر، ثلاث مرات.
عبد الجبار العكيدي _ المدن