صادف في عام 1999 أن يكون في ضيافتنا بعض الأقارب من غير السوريين، ومعهم سيدة مسنّة توفيت بعد عقد من الزمن، وهي على قناعة تامة بأنّ الشعب السوري هو أكثر شعوب الأرض سعادة بسبب حبهم للغناء والرقص.
في الشارع نفسه، أكثر من حلقة دبكة وأغانٍ وحفلات يشارك بها الجميع، من شيب وشباب، رجال ونساء، أغنياء وفقراء، وفي كل الأحياء. رأت هذا المشهد في كل المدن التي زارتها، وهي دمشق وحلب واللاذقية ودرعا. وبلهجة مكسّرة كانت تردد كلمة “نيالكن كيف عايشين”.
أبي وأفراد العائلة والأصدقاء الذين احتكوا بالضيوف، وحتى أبناء تلك السيدة، يدركون تماماً “كيف عايشين” لكن لا أحد امتلك الشجاعة ليشرح لها، وكأنّما حدث اتفاق ضمني بين الجميع على الصمت والاكتفاء بابتسامة شاحبة.
لم يكن الاستفتاء الأخير لحافظ الأسد يختلف عن أول وثاني استفتاء لخليفته بشار الأسد. أما بعد الثورة السورية، وبعد “الإصلاحات” التي قام بها النظام، ومن ضمنها تدمير المدن على سكانها، وخسارة قسم من الأراضي السورية واستقدام الجيوش الأجنبية واعتقال الآلاف وتشريد الملايين، بالإضافة لدستور جديد يكرس الديمقراطية، يلغى الاستفتاء، لنشهد مسرحية أكثر هزلية من سابقتها، وهي الانتخابات الرئاسية.
لكن انتخابات 2014 تختلف كثيراً عن انتخابات 2021، على الأقل في ردود فعل جمهور النظام، أو بتعبير أدق الموالاة. التجلي الأوضح كان عندما قامت مظاهرات السويداء تحت شعار “بدنا نعيش”، ومحاولته حشد الصفوف في الساحل، فبعد أن كان باستطاعة النظام السوري حشد مئات الآلاف من مناصريه في “مسيرات عفوية” خلال الأعوام 2011_ 2012_ 2013، في العديد من المدن السورية، اختزلت هذه المسيرات بتجمع العشرات، معظمهم دون الـ20 من عمرهم، لفترة قصيرة، في قلب مدينة اللاذقية، قبل أن تعقبها مسيرة سيارات تعبّر نوافذها الفيميه والصور الملصقة على زجاجها الخلفي عن هوية مالكيها، والتي دامت لفترة قصيرة أيضاً، مثلما حدث في مدينة طرطوس. في نسخة أكثر هزلية وبؤساً بكثير من تلك التجمعات “العفوية” المؤيدة التي كان يسوقها النظام السوري إلى الساحات سابقاً.
فخلال النصف الأول من سنوات الأزمة السورية، كانت ظاهرة اندفاع الكثير من شباب الساحل السوري- وبشكل خاص سكان الريف- إلى التطوّع في الجيش السوري قائمة، على الرغم من استمرار توافد النعوش التي تحمل أجساد أقاربهم وأصدقائهم إلى مدنهم وقراهم، بعد أن نصّب النظام السوري نفسه حامياً وحيداً للأقليات، ومدافعاً عن حقوقها، وبعد أن سوّق لـمعركته التي خاضها ضد الشعب على أنّها معركة ضد الإرهاب بوصفها معركة وجود لكل هؤلاء الشبان وعائلاتهم.
يدرك الأسد تماماً تلك المخاوف التي عمل نظام البعث على تغذيتها عبر خمسة عقود، لذلك اكتفى عام 2014 ببيان انتخابي مؤلف من ثلاثة حروف فقط (سوا)، وهي رسالة تحمل معان واضحة، كان له ما أراد من الناحية الشكلية لا الشرعية.
إلا أنّ نظرة الكثير من سكان الساحل السوري تغيرت تدريجياً بعد سبع عجاف، هدأت وتيرة المعارك في سوريا، ولم يعد لذوي هؤلاء الشبان سوى صور أبنائهم المعلّقة على جدران منازلهم، أظهر النظام لهذه الفئة أنّه لا يحمل لهم في جعبته أي ثواب مقابل تضحياتهم.
أصبح معظم عائلات الجنود يشعر بخواء ما كان أبناؤهم يحاربون لأجله، ولم يعد هناك من هو مستعد للتضحية بأبنائه، بعد أن شعر جزء كبير منهم بأن التضحية لم تكن سوى جزء من معركة النظام للصراع على بقائه، ولم يكن أبناؤهم سوى أضاحٍ ساقها النظام للدفاع عن استمراره، ولم تكن هذه الانتصارات المتتالية اللامتناهية للنظام على “أعدائه” أي أثر إيجابي على حياة السوريين عموماً، وهذه العائلات خصوصاً. فالوضع الاقتصادي الذي يزيد السوريين ألماً كل يوم. انهارت العملة السورية مقابل الدولار وانعدمت مقومات الحياة الأساسية وأصبح الشعب السوري في حالة انتظار رسالة تكامل التي تتفوق من حيث الأهمية على رسالة الغفران للمعري.
ردود فعل الشارع على مسرحية الانتخابات، وكأنّها سقوط لورقة التوت الأخيرة عن جسد النظام السوري المشوّه في منطقة الساحل السوري، التي كانت تعدّ ركيزته الشعبية الأساسية طيلة سنوات الأزمة، فظهر أمام العالم عارياً تماماً، بعد أن خسر كل أوراقه التي راهن عليها من خلال التناقضات التي اختلقها في أذهان جزء من الشعب السوري.
وبعد أن أثبت يوماً بعد آخر فشل كل سياسته لإدارة الأزمة أمام المجتمع الدولي، بمن فيهم حلفاؤه بعد أن تواردت العديد من التقارير التي تشير إلى تململ في سياسة روسيا تجاه النظام، هذا الاستياء الروسي من عدم جدوى حلول الأسد والخطوات التي يتخذها للتوصل إلى حل يخدم ويضمن مصالحها في سوريا. هي التي تخشى أن يعيد التاريخ نفسه، لكن هذه المرة في سوريا وليس في أفغانستان.
ما زال النظام يمتلك القدرة على إعادة خلق مشهد “المسيرات العفوية”، من خلال دفع العناصر التي تعمل في الفروع الأمنية، والقطع العسكرية والشبيحة إلى الساحات في زيّ مدنيّ، الذين سيحتفلون بانتصاره على منافسيه الأشداء في العرس الديمقراطي الذي ستشهده البلاد. إلا أنّه يعجز عن خلق هذه المشهدية بشكلٍ متقن كما كان في السابق.
أصبح معظم الشعب السوري يدرك أنّنا اليوم في مراجل أخيرة من الانهيار المستمر لهذا النظام، الذي يحكم بالحديد والنار ولا يملك أي شرعية، ومشروعه الوحيد نهب خيرات البلاد وبيعها مقابل البقاء الصوري في الحكم. وهذا النظام يدرك أنّه صنم هش يشبه- من حيث الرمزية- تمثال صدام حسين الذي لم يجد من يدافعه عنه لحظة انهياره في ساحة الفردوس 2003.
آدم قدرو _ ليفانت