syria press_ أنباء سوريا
يمثل الحجاب إشكالا مزدوجا بالنسبة إلى النسوية، فهو يطرح التساؤل من جهة ما إذا كان واجبا على النسويات نقده باعتباره واحدا من آليات القمع الذكورية، أم عليهن تقبله…
ليس الحجاب قضية هامشية والنقاش حوله ليس رفاهية، لا سيما بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، بخاصة أن الإجبار عليه وخلعه لطالما ارتبطا بصعود أنظمة سياسية وسقوط أخرى، حيث أهينت النساء اللائي رفضنه أو رفضن منعه وعُرِّضت حيواتهن للخطر وبالتالي لم يخرج الحجاب في الخطاب الإسلامي أو العلماني من دائرة التوظيف السياسي مطلقاً.
تحتل النساء في المجال الرمزي للدولة الأيديولوجية مكانة محورية، فتتمكن هذه الدولة من تصدير هوية اجتماعية وثقافية عبر السيطرة على ملابس النساء، وبوسع أي مراقب عادي قراءة أيديولوجية الدولة من خلال متابعة تطور أزياء النساء فيها، كما حدث في أفغانستان، حيث تمتعت المرأة في ستينات القرن الفائت بمساحة لا بأس بها، وتمكنت من التعليم والعمل وحصلت على حريتها في اختيار ما ترتديه.
لم تتوان قوى الأمر الواقع المسيطرة على المشهد العسكري والسياسي في سوريا عن استخدام المرأة مجدداً أداةً رمزية توصف واقعاً اجتماعياً وثقافياً.
تفاجئنا الكثير من الصور الآتية من أفغانستان في تلك الحقبة الزمنية وكأنها من زمن آخر، لا سيما بعد سيطرة طالبان على أفغانستان وفرض البرقع الأفغاني على النساء، ومنعهن من الخروج من المنزل دون رفقة أحد الأقارب الذكور، وتصدّر الصورة الإسلامية المتشددة عن المجتمع الأفغاني.
في إيران حظر الشاه رضا البهلوي الحجاب في أوائل الثلاثينات من القرن الفائت، وقابل الاحتجاجات بالعنف وارتكب مجزرة مسجد كوهرشاد الشهيرة ضد من طالبوا بفك الحظر، وبعد مجيء الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، عاد الحجاب إلى الواجهة السياسية مجدداً، وصدرت تعليمات من قائد الثورة آية الله الخميني بضرورة أن ترتدي النساء الحجاب الشرعي خارج بيوتهن، والنساء بتن يحاسبن ويعاقبن بالسجن والغرامات المالية والجلد إذا فكرن في نزع الحجاب أو تمردن عليه، وهي عقوبة تمارس حتى اللحظة.
بطبيعة الحال استخدم الحجاب كأداة تغيير سياسي في تركيا والكثير من الدول العربية والإسلامية، كما تم استخدامه في بعض الدول الأوروبية كأداة صراع سياسي ضد المهاجرين أو ضد بعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي.
ولم يكن نظام الأسد بعيداً من طبيعة هذا الصراع السياسي، فقد كان له باع طويل باستخدام النساء كأداة ضغط وإذلال لكل من يفكر بالوقوف بوجهه، وكانت أبرز تجليات هذا الاستخدام في منع الحجاب في سوريا في ثمانينات القرن الفائت، واستخدم بذلك قوى سرايا الدفاع لتنفيذ القرار ومواجهة الاحتجاجات ضده، وعلى رغم أن هذا القرار كان موجهاً بشكل مباشر ضد الاخوان المسلمين في سوريا، إلا أن جميع القوى السياسية الفاعلة وقفت ضده وخرجت احتجاجات تضم نسويات سوريات ينتمين لأحزاب وتيارات سياسية لرفض القرار والدفاع عن حق النساء باختيار ملابسهن وطريقة عيشهن.
وعلى رغم عدم سحب قرار منع الحجاب في الدوائر الحكومية والجامعات والمدارس والأماكن العامة، إلا أنه ومع توطيد العلاقة بين نظام الأسد وإيران، أصبح القرار حبيس الأدراج، وانتقل نظام الأسد إلى المرحلة الثانية حيث لم يكن يمانع بل كان يدعم في كثير من الأحيان الحركات الدينية التي تستهدف النساء وتفرض الحجاب وتمارس التمييز ضدهن، إلى أن تم إلغاء القرار عام 2000، بعد تولي بشار الأسد الحكم في سوريا.
ومع بداية الثورة السورية حدثت طفرة في حضور المرأة في المجتمع، إذ شاركت النساء بقوة في جميع النشاطات المدنية والإغاثية والسياسية، وأثبتت المرأة فعاليتها في كل هذه المجالات في جميع المدن السورية حتى المحافظة منها، غير أن تطور الصراع العسكري وانتشار الفكر الجهادي المتطرف، واستعانة نظام الأسد بالميليشيات الإيرانية المتطرفة، وظهور تنظيم “داعش”، عوامل ساهمت بتراجع دور المرأة وانغلاقها على نفسها.
وبطبيعة الحال لم تتوان قوى الأمر الواقع المسيطرة على المشهد العسكري والسياسي في سوريا عن استخدام المرأة مجدداً أداةً رمزية توصف واقعاً اجتماعياً وثقافياً، تريد هذه القوى ترويجه عن هذا المجتمع. ففرض النقاب في مناطق “داعش”، والحجاب والأثواب الفضفاضة غير الملونة في مناطق سيطرة جبهة “النصرة” والفصائل الإسلامية لصبغ هذه المناطق بالصفة الإسلامية/ على رغم أن الشمال والشرق السوري لطالما ضما قرى وبلدات مسيحية ودرزية وآشورية وغيرها. وفي الوقت ذاته، عملت القوات الكردية على تسويق صورة مختلفة عن نفسها فأدخلت النساء وحتى الفتيات الكرديات القاصرات قسراً في المعارك العسكرية، وجعلتهن جزءاً من آلتها الإعلامية لتظهر أنها مختلفة عن القوى المحيطة وتستقطب الاهتمام والتأييد الغربي.
وفي خضم هذه الصراعات السياسية كلها، لا يمكن أن نغفل أن الحرية في اختيار الحجاب أو عدمه هو قضية نسوية بحتة، وتتعلق في الدفاع عن أبسط حقوق المرأة الفردية في اختيار ما ترتدي من دون تدخل أي سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية، ومحاولة إخراج النساء من دوائر الصراع السياسي عليهن، إلى دوائر الفعل والقرار الاجتماعي والسياسي هو من أحد أكثر القضايا النسوية إلحاحاً، لا سيما في بلدان الربيع العربي والتي تسعى بعض القوى لإحكام السيطرة عليها وتغيير طبيعتها الثقافية والاجتماعية.
يرى البعض في الحجاب مظهراً من مظاهر اضطهاد المرأة وقهر الرجل لها، حيث يصعب فهم كيف أن كثيرات من النساء المسلمات يرتدينه بمحض إرادتهن ويدافعن عنه.
يمثل الحجاب إشكالا مزدوجا بالنسبة إلى النسوية، فهو يطرح التساؤل من جهة ما إذا كان واجبا على النسويات نقده باعتباره واحدا من آليات القمع الذكورية، أم عليهن تقبله باعتباره واحدًا من أبعاد الوجود الأنثوي المختلف لثقافة مغايرة.
في كثير من الأحيان يرى البعض في الحجاب مظهراً من مظاهر اضطهاد المرأة وقهر الرجل لها، حيث يصعب فهم كيف أن كثيرات من النساء المسلمات يرتدينه بمحض إرادتهن ويدافعن عنه، بخاصة إذا ما نظرنا إلى آليات التعامل مع الحجاب في المجتمعات الإسلامية، حيث يتم فرضه على الفتيات في أعمار صغيرة بين 7 و16 سنة، وهي أعمار أصغر من أن تتمكن الفتيات فيها من بناء قناعة بشأن الحجاب أو عدمه.
ولكن هذا لا يمنع أن هناك نسويات مسلمات يرتدين الحجاب، ويشعرن معه بدرجة أكبر من الحرية والاتساق مع هوياتهن، وقد يكون ذلك بحكم القناعة والإيمان والعقيدة، أو ربما بحكم العادة وبكل الأحوال يجب أن يكون هذا الأمر حرية فردية لا جدال حولها، إذا لم يتم توظيفه لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية.
ربما على حركات التحرر النسوية أيضاً إعادة سياق النقاشات في مسألة الحجاب إلى مكانها الطبيعي ضمن دائرة الحريات الفردية، وعدم إلصاق صفة المقدس الديني والأخلاقي، وعدم السماح باستغلالها لحماية العادات والتقاليد البالية، وسحب منها رمزية التعبير الثقافي عن المجتمعات.
مها غزال _ درج