سيريا برس _ أنباء سوريا
تابع مئات الآلاف وربما ملايين السوريين تشييع حاتم علي وجنازته تنساب مثل ماء النبع من مشفى الشامي إلى ساحة الأمويين، تذكرت عبارة الإمام التي يرددها صديقي “بيننا وبينكم يوم الجنائز”، وعادت بي الذاكرة نحو عشرين عاماً، حيث كان نعش آخر يشقّ طريقه على عربة عسكرية، وخرج من صلب هذا النعش ظلّ ثقيل أضاف عقدين من البؤس، نصفها بدأ بحرق ربيع دمشق، ونصفها الآخر بدقّ عظام أولادها بالحديد والنار.
هناك قرب ساحة الأمويين، قبالة بستان هشام، كان “حاتم” يبزّ الرّجال بلا سكاكين ولا نياشين، بل بصورة الشاب الأسمر القادم إلى أحزمة دمشق البائسة من نكسة 1967، فارساً أسرج الصورة حتى حملت ملامح الرسل.
في أول يوم من كانون الثاني نبت له جناحان وطار على أكف محبيه من دون مذاهب، ورغم برودة الموت كان “حاتم” يعدّ السوريين لربيع آخر، ربيع شهق على الشفاه نشيداً يقول “فتح ياسمينك يا شام”، وكأن صاحب النعش يريد أن يوصل رسالته بأن ثمة خلاصا لا بدّ منه، خلاص رغم رجل البوليس، ورغم المخبر والقنّاص، لقد عاد بجواز سفر أبديّ ودائم، كما يصف اصدقاؤه، رغم الشرطيّ الذي منحه ختماً لعامين فقط.
لقد فضحت جنازة “حاتم علي” حزناً على بلاد يقول أهلها إن أحدا “لا يشتهي أن يرميها بوردة”، جنازة أفلتت من مقصّ الرقيب وأفشت سرّ الحبّ والرغبة في الحياة والانعتاق، كان الأسود يبتلع كلّ الألوان، انتظر المسيحيون على باب جامع الحسن كما لو أنهم يحرسون ملاك المسلمين، كان النعش يسير على أكتاف طائفة واحدة اسمها سوريا، كانت فرصة أن يلحظ كلّ منّا ملامحه، إذ يقول بعض من حضروا إن رجلا كان يمشي مردداً عبارة “أنا درويش .. أنا درويش”، لعله صوت محيي الدّين بن عربي يذكّر بأصل هذه الأرض الوادعة الحالمة والمؤمنة، وسجّل المشيّعون صوت سيدّة تنادي “شكرا يا حاتم .. كتّر خيرك يا حاتم”، ربما هي امرأة حملتها قافلة “التغريبة”، ومن يدري كم انتظرت كي تعبر عن امتنان الذّاكرة.
ليس ثمة أوضح من حزن السوريين على ولدهم، كرسالة حيال هذا الموت الطويل، وكأننا نقول لقاتلنا كفى، كفى فقد أعمى البكاء عيون الأمهات، وتاهت قافلتنا حتى تقطّت السبل بنا، فمات الشباب وغرق الأطفال في البحر، ونامت البلاد نصف أهلها على حلم رغيف، ونصفهم الآخر على كوابيسها تحت النّصال، وكلّهم على رغبة بعودة أبدية ليس فيها قائد أبديّ ولا وكلاء عن السماء ولا سجون ولا سجّان.
علي عيد – زمان الوصل