إذا كان النظام الأسدي كياناً سياسياً بدا أنه يمارس وظائفه عبر إمساكه بدولةٍ بدل هويتها ووظائفها، فإن الثورة أظهرت أنه لم يكن، في الواقع، غير جهة تنتج العنف ضد السوريين منذ اليوم الأول لانقلاب عام 1963 الذي تحوّل، خلال فترة قصيرة، إلى مشروع حربٍ عليهم، خصوصاً بعد انقلاب الأسد عام 1970 الذي ترجمها إلى معارك محدودة قبل ثورة 2011، وحربٍ شاملة بعدها، استخدم خلالها كل ما في حوزة جيشه من سلاحٍ ضد شعبه الذي اشتراه بلقمة أطفاله، لاعتقادهم أنه سيستخدم لتحرير الجولان من الإحتلال الإسرائيلي، الرابض على صدره منذ أكثر من خمسين عاما.
إذا كان النظام السياسي يقوم، في رأي مفكرين وفلاسفة عديدين، على التوازن بين أدواته وأجهزته العسكرية وبين شعبه، فإن الإجهاز المتعمد على الملايين من بناته وأبنائه بسلاح العسكر الأسدي، ومن استعان بهم من جيوش روسية وإيرانية ومرتزقة العالم السفلي في أكثر بلدان العالم تأخرا وعنفا، يعني أن القضاء على المجتمع السوري، كطرف في توازنات السلطة، سيبدّل هويتها ووظائفها، وما يمكن أن يذكّر من التزاماته بما كان له من دولةٍ مجتمعية، طبيعية وشرعية، كما يعني أن نظام ما بعد الحرب لن يسمح بعودة الوضع السوري إلى ما كان عليه قبل “انتصاره” وشطب الطرف المجتمعي من معادلاته وتوازناته، كما تخلقت نتيجة للحرب، وتكاد اليوم تقتصر على القتلة ومحترفي العنف الذين طبعوا السلطة بطابعهم، وغدت الدولة دولتهم، ولن يقبلوا بالتعامل القانوني أو الطبيعي مع ما يمتّ إلى السوريين وثورتهم بصلة، بعد تعرّضها للسحق المنظم، واقتصار السلطة على محترفي القتل الذين صاروا حملتها، وصار باستطاعتهم إسقاطها إن سحبوا دعمه لها أو رفضوها. ويرجّح أن يبقوا فترة غير قصيرة الجهة الرئيسة التي تنهض الأسدية عليها، وأصحاب القرار بالنسبة لمصيرها، وقبضتها الفتّاكة التي لن تقبل، تحت أي ظرفٍ ولأي سبب، عودة شعب المهجّرين إلى وطنه، بجهودٍ يقال إن موسكو تبذلها منذ بعض الوقت، لأنها ستربط السماح لهم باسترداد بيوتهم بقبولهم النظام الذي أنتجهم خلال الحرب، فطبعوه كشبّيحة بطابعهم، وبإبعادهم عن أي موقعٍ قد يهدّد نظامهم في طوره الجديد، القائم على دولة سلطة ومليشيا بلا شعب، وستتم المحافظة عليه بالحؤول دون تغييره كنظام حرب يرفض الحلول التي تطرح دوليا لسورية، وتدعو إلى سلام مخادع/ مدمّر، من شأن تطبيقه أن يعيد نظام التوازن الذي كان للشعب حضور فاعل فيه، ويبدّل قيامه الأمر القائم، وينضج شروط ثورة جديدة ضدّه، ليست الأسدية بحاجة إليها، ويرجّح أن لا تنجح في التغلب عليها!
فضحت الحرب ما كانت السياسة تحجبه، وهو أن الأسدية ليست غير مؤسسة عنف، وظيفتها إخضاع شعبها، عدوها الداخلي، بالقمع والتخويف خلال السلم، والقتل والإبادة، إذا ما تحدّاها أو تمرّد عليها. وكشفت أن النظام الأسدي كان، على الدوام، نظام دولة عميقة، بفرعين جيشي وقمعي/ أمني، وأن رئيسه كان وسيبقى منسق أعمالها وضامن وحدتها، والجهة التي ترى في السوريين خطرا داهما لا بد من إبقائه تحت رقابة دائمة، بينما يضع عسكره أصابعهم عن زناد بنادقهم المصوّبة إلى رؤوسهم، التزاما بمهمتهم السياسية الوحيدة: تحويله من شعبٍ افتراضي إلى مزق تقوّض وجوده، يكرّس القتلة في غيبته كشعب أسدي أوحد، يحتل بلادا غدت ملكه وحده، بعد أن حوّلها إلى معسكر ينتصب على بابه رمز انتصاره: البوط العسكري، صنم الأسدية المقدس الذي تُكتب له القصائد وتُنشد الأغاني، وتزدان به أسوار لا يسمح للسوريين باجتيازها، بعد أن اسقطت الحرب حقهم في العودة إليها، وإن أبدوا الولاء للبوط، كما حدث قبل أسابيع قليلة لمئات العائدين إلى بيوتهم، عند حدود لبنان.
العربي الجديد _ ميشيل كيلو