أولاً: حينَ حلّ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في الخرطوم، قادماً من تل أبيب، ليبدأ جولته في دول عربية مؤلفة قلوبها لترويج “صفقة القرن”، كان في حساباته أنّ السودان هو البلد الأقرب ليحذو حذو كلٍّ من الإمارات والبحرين في اعتماد سياسة التطبيع مع إسرائيل، مدخلا لإحلال السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، غير أن رئيس وزراء حكومة الثورة الانتقالية في الخرطوم، عبدالله حمدوك، فاجأه بأنه لا يملك تفويضاً لمناقشة هذا الملف، وأن الأمر برمته سيكون من اختصاص حكومة ومجلس تشريعي منتخبين من الشعب السوداني.
لن ننظر إلى حجّة رئيس الوزراء السوداني في إطارها المحلي، بل هي على المستوى الإقليمي، حجة تفتح ملفاً بالغ الحساسية عند معظم الدول المعنية بصفقة القرن هذه. والسؤال هنا هو أشبه بالسؤال الشكسبيري: أيُسمع صوت الشعوب العربية المعنية بتداعيات “صفقة القرن” أم لا يسمع؟
ثانياً: لا ينكر مُحلّل سياسي حال معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كونها الأكثر تجاهلاً لصوت شعوبها، والأقل استجابة لمطلوبات إرادتها. ولعلّ الأمم المتحدة، في تقاريرها عن أحوال التنمية البشرية في مختلف مناطق العالم، قد خصّت الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بملاحظاتٍ عن أحوال معظم بلدان تلك المنطقة، وحاجتها لرفع قيم الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان عموماً في تنمية مستدامة، وهي لن تتأتى إلا عبر برامج اجتماعية وتربوية وتعليمية لازمة، بما يتيح لهذه الشعوب امتلاك مصائرها وإرادتها، لتكون شريكا حقيقيا وفاعلا في إدارة بلدانها، غير أن تلك نواقص تشكل ضعفاً بنيوياً حاق ببلدان تلك المنطقة منذ سنوات بعيدة.
السؤال هنا أشبه بالسؤال الشكسبيري: أيُسمع صوت الشعوب العربية المعنية بتداعيات “صفقة القرن” أم لا يسمع؟
رسخت تلك الحالة في الحقبة التي تلت سنوات الحرب العالمية الثانية، وتطلع شعوب المنطقة لنيل استقلالها. تولت الصفوة في بعض البلدان العربية، بعد ذلك، إنشاء جامعة الدولة العربية في أربعينيات القرن الماضي، بافتراض امتلاكها زمام أمر شعوبها بأيديها. ظلت الجامعة منظمة إقليمية أنشأتها زعاماتٌ برزت من بين مجاميع تلك الصفوة، ولم تنشئها الشعوب.
ثالثاً: ليس الهدف هنا استعراض مسار الصراع العربي الإسرائيلي وتعقيداته ومسلسلات التفاوض المضني عبر عقود طويلة، والاتفاقيات التي بقيت حبراً مسكوباً، ولم تثمر جميعها إلا مزيدا من الخسائر ومزيدا من إضعاف الجانب العربي، المنهك أصلا بعد المواجهات العسكرية مع إسرائيل. شهد المجتمع الدولي تحولاتٍ عظيمة في النصف الثاني من القرن العشرين، أبرزها اشتعال الحرب الباردة بعد سنوات الحرب العالمية الثانية. في تلك الأجواء التي عاشها المجتمع الدولي، موزعاً في معادلة التوازن الدولي بين قطبين متشاكسين، بقي الصراع العربي الإسرائيلي مموّهاً بين حروبٍ خسرها الجانب العربي، بعنترياتٍ مجّانية، واتفاقيات أجهضها الجانب الإسرائيلي بتعمّد وسوء نية.
رابعاً: ولأن الأمم توافقتْ على تجنّب الحرب وضرورة الحرص على الاستقرار والأمن الدوليين، فقد تبع ذلك اهتمام متزايد بالدبلوماسية الجماعية التي أفرزت هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها وبرامجها، واتجه المجتمع الدولي نحو ابتناء تكتلات وشراكات جماعية تعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وقضايا الصحة والبيئة وأحوال المناخ. غير أنّ الحال لم يدم طويلاً، إذ انفرط عقد التوازن الدولي بزوال الاتحاد السوفييتي في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين، فانطوتْ حقبة الحرب الباردة، ثم دلف المجتمع الدولي إلى استهلال ألفية جديدة اختلفت فيها الأولويات عند الجميع، وتقاطعت الأجندات وتعثرت التسويات. ومع انبثاق ثورة المعلوماتية والاتصالات فقد شكلتْ بعداً جديداً، صغرتْ معه مساحات التعاون الدولي صِغراً افتراضيا، جعل من العالم قرية كونية تتحكّم فيها محرّكات العولمة.
لم تعد البيئة السياسية للمجتمع الدولي ترسمها أصابع اللاعبين السياسيين وحدهم، بل صار لتدخلات الطبيعة أصابع أيضاً
من تجليات تلك الثورة الكاسحة أنها أتاحت للشعوب حقاً أسمى في الإمساك بأقدارها، وفي التعبير عن حقوقها وعن مطلوباتها، بما قد يتجاوز صلاحيات تقليدية ظلت تحتكرها الحكومات والزعامات التي تولت حق التعبير عن إرادة شعوبها عقودا طويلة سيّجتها بقداسةٍ لن تستدام، إذ من تجليات تلك العولمة أن تظهر هشاشة تلك الممارسات التقليدية بعد حين.
خامساً: لننظر نظراً أعمق إلى مواسم الربيع التي اجتاحت بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في خلال العقد المنصرم، فهي مرحلةٌ قد تعقبها مراحل في بيئة المجتمع الدولي التي صارت أكثر تعقيداً وأوضح أثراً على أحوال المنطقة. لم تعد البيئة السياسية للمجتمع الدولي ترسمها أصابع اللاعبين السياسيين وحدهم، بل صار لتدخلات الطبيعة أصابع أيضاً. انظر حولك، ترى تحولات المناخ وتغيرات البيئة صارت تتحكّم في مصائر البشرية. ثمّ ها نحن نشهد أخطر تحدٍّ صحي تمثله جائحة كورونا، يهدّد البشرية بنسبٍ غير مسبوقة. تعاظم التحدّيات رافقته للأسف تراجعاتٌ في مسارات التعاون الدولي وإضعاف للشراكات الدولية، فالولايات المتحدة مثلاً تنسحب من الاتفاقيات الجماعية ، فلا هي تتحمّس لمنظمة يونسكو، ولا تتجاوب مع اتفاقية المناخ، ولا تدعم منظمة الصحة العالمية فيما فيروس كورونا ينقض على ملايين من البشر.
التهديد والابتزاز هو الأسلوب الوحيد المتاح لترامب لينجز أجندته، ويعزّز مراده رئيساً أبدياً للولايات المتحدة الأميركية، كما جاء في أحلامه
وفوق ذلك، تتبنّى إدارة الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، سياسة جامحة تكاد تستعدي بعض جيران بلاده الأقربين والأبعدين، مثل المكسيك وكندا وفينزويلا. ليس لهذه الإدارة كبير حماسٍ لاعتماد معايير تنتقد حكوماتٍ يعتبرها الأميركي المستريب صديقة للولايات المتحدة، إذ هو مشغول بترسيخ تطلعه لزعامة يريد تحقيقها باتباع أجنداتٍ أحادية تتقاطع مع سياسات دول مؤثرة، مثل دول الإتحاد الأوروبي، أو دول آسيوية مثل كوريا وإيران، ثم أخيراً يختزل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي باقتراح خطةٍ سمّيت “صفقة القرن”، بقصد إحداث، ليس خريطة لتلك المنطقة فحسب، بل إيجاد واقعٍ جديد، يكون فيه ترامب هو صانع السلام في أطول صراع شهده العالم مشتعلاً 72عاما.
سادساً: في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي، ترامب هو العرّاب المشكوك في أمره. لن تتحقق صفقته المشار إليها بإدماج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا بالتهديد مرّة أوبالابتزاز مرّة أو مرّتين، أو بالرشاوى السياسية في باقي المرّات. ذلك هو الأسلوب الوحيد المتاح له لينجز أجندته، ويعزّز مراده رئيساً أبدياً للولايات المتحدة الأميركية، كما جاء في أحلامه. لا يبدي الرّجل جدّية تذكر بشأن مآسي المنطقة، فلا هو يعنى بجدية بما يدور في اليمن أو في ليبيا أو في سورية، لكنه ينشط لإدماج إسرائيل طرفاً أصيلاً، لا مزروعاً، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يستعجل الرّجل تطبيع البلدان العربية مع دولة إسرائيل، ولا ثمّة من يقول له إن ذلك التطبيع رهين بما تراه شعوب المنطقة، ممثلة بحكومات تملك تفويضاً من شعوبها، أو من برلمانات شرعية، تبتّ جميعها في أمر إدماج إسرائيل أو تطبيع العلاقات الكاملة معها. وفي جولته قبل أيام، في بعض بلدان المؤلفة قلوبهم للتطبيع مع إسرائيل، لم يسمع بومبيو، ممثل العرّاب الأميركي ومنفذ الصفقة، مثل تلك الحجّة، إلا في السودان ومن رئيس الحكومة الانتقالية.
جمال محمد ابراهيم _ العربي الجديد