يبدو أن الأحداث في منطقة شرق الفرات عموماً وفي ريف دير الزور بصورة خاصة، راحت تسلك منحىً جديداً عقب محاولة اغتيال شيخ قبيلة العكيدات، إبراهيم خليل الهفل، وما نتج عنها من مقتل عمّه مطشر الهفل. إذ فتحت الباب واسعاً أمام تساؤلات وفرضيات متباينة حول مستقبل وطبيعة العلاقة (السياسية- السيادية) بين القطبين الممثلين بالعشيرة كمنظومة اجتماعية وسياسية، وقوات “قسد”.
حادثة الاستهداف الأخيرة سبقها العديد من عمليات اغتيال استهدفت شيوخ عشائر في ريف دير الزور، كالشيخ علي الويس، أحد مشايخ قبيلة البكارة، وسليمان الكسّار أحد كبار الشخصيات في قبيلة العكيدات أيضاً. ناهيك عن استهداف قادة فصائل معارضة من أبناء العشائر المنتشرة في أرياف المنطقة الشرقية، والذين لعبوا دوراً كبيراً في التصدّي لقوات النظام منذ بدايات تشكيل الجيش الحر وساهموا في تحرير المنطقة من تلك القوات والميليشيات المتحالفة معها.
كل ذلك، يضاف إليه استفزاز من نوع آخر قامت به “الإدارة الذاتية” التابعة لقسد حين حاولت فرض منهاج تعليمي يتعارض مع ثقافة أهالي المنطقة، ساهم بتعقيد الأمور وزيادة التوتّر ليصل الأمر في نهاية المطاف إلى المواجهة المباشرة الحالية التي أطلقها أبناء العشائر ضد قوات “قسد”.
العشائر وتوزعها الديمغرافي في ريف دير الزور:
لتشكيل صورة جليّة يمكن من خلالها شرح الواقع المُعاش في ريف المحافظة، بإفرازاته السياسية والاجتماعية والفكرية، يتعيّن تسليط الضوء على أهم المكوّنات العشائرية في المنطقة، وتفاعلاتها مع مختلف القوى السياسية والعسكرية التي تعاقبت في السيطرة على المنطقة عموماً، قبل اندلاع الثورة وخلالها.
ومن أهم وأكبر القبائل المنتشرة في المنطقة قبيلتا العكيدات والبكّارة، بالإضافة للعديد من القبائل والعشائر ذات الثقل الاجتماعي.
البقّارة/ البكّارة: ينتشر أفراد القبيلة في معظم أنحاء سوريا، إلا أن محافظة دير الزور تعتبر مركز ثقلها، ويتوزّع غالبيتهم في ريفها الغربي (الضفة الشرقية لنهر الفرات).
ويعتبر الشيخ “راغب البشير” كبير شيوخ القبيلة، التي يتفرع منها أفخاذٌ (عشائر) لهم شيوخهم أيضاً. وبعد وفاة راغب البشير في 1980، تسلّم المشيخة ابنه “نواف البشير” الذي لحق بصفوف الثوار في بداية الحراك، ثم انضم إلى بعض تشكيلات المعارضة في تركيا قبل أن يعود بصورة غامضة ومثيرة للجدل إلى سوريا، مطلع العام 2017، ويعلن ولاءه للنظام وحليفته إيران، ويشكّل بدعمٍ من الأخيرة ميليشيا مسلحة تحت رعايتها.
إلا أن سلطته كشيخ للقبيلة أضحت اسميّة فقط وانفضّ عنه كثيرون من أفرادها تدريجياً منذ اندلاع الاحتجاجات، وعقب عودته إلى صفّ النظام، أصدر أبناء القبيلة بياناً أعلنوا فيه عدم مسؤوليتهم عن تصرفات البشير، واستنكارهم لادعاءاته حول تمثيل القبيلة، التي وصفها البيان بأنها “هي صاحبة الحق في منح الألقاب والمراكز الاجتماعية”.
ومنذ ذلك الحين أصبح ابن عمه، الشيخ “حاجم أسعد البشير” صاحب الحظوة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ويقيم اليوم داخل مناطق “قسد”، في قرية “الحصان” التي يفصلها نهر الفرات عن مدينة دير الزور الواقعة تحت سيطرة النظام. ويعتبر “حاجم” اليوم ممثل قبيلة البكارة لدى قوات “قسد” و”الإدارة الذاتية”.
وللقبيلة أيضاً انتشار في مناطق شمال شرقي سوريا، في كلّ من جبل عبد العزيز ورأس العين وتل أبيض وتل تمر ومدينة الحسكة، الواقعة جميعها تحت سيطرة “قسد” أيضاً.
أما قبيلة العقيدات/ العكيدات: فتُعدّ الأكثر عدداً والأوسع انتشاراً بين قبائل حوض الفرات عموماً وكذلك في ريف دير الزور. ويحدد الباحث المتخصص بتوثيق أرشيف المنطقة، أحمد سلامة القيسي، مناطق توزّع القبيلة فيقول: “تتمركز في محور موازي لنهر الفرات، من مدينة البوكمال على الحدود العراقية جنوب شرقي مدينة دير الزور، وصولاً إلى قرية “البويطية” شمال غربي المدينة، بطول يصل لقرابة 170 كم تقريبًا”.
ويعدّد القيسي لموقع “تلفزيون سوريا” أسماء قبائل وعشائر متفرقة جاورت العكيدات وشاركتها الانتشار وشكّلت معها أحلافاً، كعشيرة (بو خابور) في مدينة موحسن وريفها، وعشائر (البوسرايا) في ريف دير الزور الغربي، وعشائر (الدليم) و(العبيد) و(العزّة) و(البو شعبان) و(القلعيين/ الكْلَعيين) في الريف الشرقي، و(الجبور) والمشاهدة في منطقة حوض الخابور في الريف الشمالي، وأخرى غيرها.
يرجع نسب تلك القبائل مجتمعة لقبيلة “زبيد” القحطانية العربية، بحسب الباحث “حسام عبد العزيز الحمادة”، وهو أحد أبناء شيخ عشيرة (البكَـيِّر)، التابعة لقبيلة العكيدات الكبرى التي تضمّ أيضاً كلاً من عشائر: (الحسون) و(الشحيل) و(الهفل) و(الشويط) و(البو رحمة) و(البو حسن) و(القرعان) و(الحسون) و(الشعيطات) و(الدميم).. وغيرهم.
ويوضح الحمّادة لموقع “تلفزيون سوريا” مدى أهمية الحيّز الجغرافي الذي تشغله تلك القبائل، وتحديداً العكيدات، حيث تتربع على بقعة تمثّل الخزّان الاقتصادي لسوريا، سواء على مستوى الزراعة أو الثروات النفطية.
العشائر ونظام الأسد:
بدأ الدور السياسيّ الذي كانت تمارسه العشائر عبر شيوخها الفعليين، يتقلّص تدريجياً مع تولي حزب البعث السلطة في سوريا، ووصل إلى أدنى مستوياته بعد تسلّم عائلة الأسد حكم البلاد، وذلك من خلال تهميش الزعامات القبليّة وزعزعة المنظومة العشائرية.
وفي حديثٍ مع موقع “تلفزيون سوريا”، يفنّد الشيخ “عبد الله” –اشترط عدم ذكر اسمه الحقيقي- المقيم في مناطق “قسد”، السياسات التي طبقها نظام الأسد للإخلال بالمنظومة العشائرية وسهّلت تحكّمه بمفاصلها، وخلق صورة نمطية سلبية عششت داخل أذهان السوريين.
فيشير إلى أن النظام استقدم أشخاصاً من الصفوف الخلفية في عائلة المشيخة، وقربها إلى أجهزته الحزبية والأمنية وجعلها تعمل بصفة “سماسرة” و”مخبرين”، ورفع من شأنهم بهدف جعلهم أنداداً للشيوخ الحقيقيين الذين يستغلّهم النظام فقط في حالات فضّ النزاعات والخلافات داخل العشيرة.
كما يدفع النظام بأولئك السماسرة للترّشح إلى انتخابات مجلس الشعب، كمنافسين حقيقيين لأقاربهم من الشيوخ الحقيقيين، ما يؤجج حالة الانقسام والنزاع داخل العائلة وبالتالي العشيرة.
وعمل النظام، يذكر الحمّادة، على “خلق منظومة بعثيّة قوامها من أبناء العشائر، موازية للمجتمع العشائري ومسلّطة عليه، وتحظى بكل أشكال الدعم من قبل أجهزته الأمنية”.
ويشير الحمادة إلى أن النظام تعمّد إفقار مناطق نفوذ العشائر من أدنى مقومات الحياة، ما دفع أبناءها للهجرة نحو المدن الداخلية أو خارج حدود البلد، والعمل في مهن متواضعة رغم مناطقهم الغنية بالثروات.
أما عبد الله فيلفت إلى أن “نسبة كبيرة من رجالات العشائر وشخصياتها الاعتبارية في المنطقة الشرقية كانت مغمورة ومهملة ومهمّشة في ظل النظام بعكس ما كان يظن البعض، في حين دعم النظام بعض شيوخ عشائر المنطقة الوسطى والشمالية وسمح لهم بتشكيل (مافيات) وعصابات تشرف على تهريب المخدرات والسلاح وترهيب الناس”.
ويؤكّد كلّ من عبد الله والحمادة أن تلك العوامل مع غيرها، ساهمت بانخراط العشائر في الحراك الثوري منذ الأيام الأولى، بالتوازي مع حراك أبناء مدينة دير الزور الذين انخرطوا مبكراً في الثورة السوريّة.
العشائر والثورة:
دفع عنف النظام المفرط في مواجهة الحراك السلمي بأبناء العشائر لحمل السلاح ومحاربة النظام سواء في داخل مدينة دير الزّور أو في الريف، إلى أن تمّ تحرير ريف المحافظة بشكل شبه كامل وبوقت مبكّر من مرحلة الحراك المسلّح.
ويصف الحمادة مرحلة ما بعد تحرير الريف بأنها “مرحلة معقّدة خضعت فيها المنظومة العشائرية لاختبار مصيري يتمثّل في ضبط الوضع الأمني من جهة، وبالتعامل مع النفط الذي أصبح خارج السيطرة وراح يستخرج ويستثمر بطرق بدائية”.
وبالرغم من ثقة الأهالي بالجيش الحر آنذاك ودعمهم له، إلا أن الأخير ما لبث أن اصطدم بالواقع العشائري، خصوصاً أنّ أفراد الجيش الحرّ ينحدرون من عشائر المنطقة ذاتها، ويفتقرون للتنظيم والإدارة.
وبالرغم من ذلك الواقع وما تخلله من تمرّد على الأعراف والقيم القبليّة، إلا أن أرياف دير الزور شهدت حالة من الاستقرار النسبي، في الفترة الممتدة ما بين عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٤ مقارنة بالفترات اللاحقة التي عاشتها المنطقة تحت سيطرة كلّ من “تنظيم الدولة” و”قسد”.
العشائر بين “تنظيم الدولة” و”قسد”:
مع بداية العام 2014 اصطدمت فصائل دير الزور، وقوامها من أبناء العشائر، مع “تنظيم الدولة” الذي تمكّن، وبصورة يلفّها الغموض، من بسط سيطرته على المناطق المحررة من مدينة دير الزور وريفها في منتصف ذلك العام.
وأول ما مارسه التنظيم كان الانتقام مع أبناء المحافظة في المدينة والريف على حدّ سواء مرتكباً بحقهم جرائم لا تعدّ ولا تحصى. ولعل من أبرزها مجزرة عشيرة الشعيطات التي قتل فيها ما يقارب الألف من أبناء العشيرة.
وفي إشارة واضحة إلى نيّة التنظيم تحجيم دور العشيرة، أقدم على اعتقال شيخ مشايخ قبيلة العكيدات، خليل الهفل، ليطلق سراحه لاحقاً، وقرّب منه شخصيات قبليّة تتعامل مع سلطات الأمر الواقع تعاملاً نفعياً.
ويتحدث الشيخ عبد الله الذي عايش مرحلة “سيطرة التنظيم” على قريته، واصفاً المشهد بأنه كارثي ومرعب ومحزن بشكل لا يوصف: “(داعش) كسر هيبة الشيوخ وكبار العشيرة، وأذلّ كثيرين، وسفح الدم في الشوارع حتى غدا منظراً يومياً مألوفاً، ومارس ما مارسه النظام حين جلب رجال الصفوف الخلفية من العشيرة وقوّاهم على البقية”.
وأردف: “باختصار شديد، خلّف “داعش” منطقة منكوبة وقبائل منهكة بكل ما تعني الكلمة، وأصبحنا مهيّئين لاستقبال أي بديل ينتشلنا من تلك الحالة، وهذا بالضبط ما مهّد لسيطرة “قسد” على المنطقة ببساطة ويسر”.
وعن تلك المرحلة، يكشف الحمادة عن توجّه العديد من أبناء دير الزور للالتحاق بـ “مجلس دير الزور العسكري” المنضوي آنذاك في صفوف “قسد” المدعومة من قبل قوات التحالف، وليشكّلوا “رأس حربة في كل المعارك التي خاضتها “قسد” ضد التنظيم في ريف دير الزور”.
تعامل أبناء العشائر بادئ الأمر بصورة إيجابية مع “قسد” باعتبارها القوة التي خلصتهم من جحيم “الدواعش”، وأملاً بإعادة الاستقرار وبدء مرحلة جديدة تنسيهم سنوات “التنظيم” العجاف.
“نعم الناس بشعور الحرية الذي فقدوه في ظل التنظيم الذي لا يتوانى أحياناً عن اتهامك بالردّة لمجرد سؤال عابر، ليكلّفك قطع رأسك” يقول عبد الله ثم يستدرك: “وفجأة انقلبت الأمور، بعد أن صاروا يتعاطون معنا بمنطق المؤامرة كلما انتقدناهم أو طلبنا منهم تفسيراً حول تجاوز أو انتهاك يطال أبناءنا”.
ويعلّق الحمادة بدوره: “كالنظام تماماً حين اتهمَنا بالعصابات الإرهابية المسلحة، وكالتنظيم الذي اتهمنا بالردّة والعلمانية، والتهمة الجاهزة عند “قسد” الآن هي أننا (دواعش)”.
والحال، يبدو أن الانتهاكات المتراكمة التي خلّفتها سياسة “قسد” في المنطقة، ستشكل منعطفاً جديداً في طبيعة العلاقة بينها وبين أبناء العشائر الذين سئموا سياسات المؤامرة وتحكّم المتشددين والنمطيين. ويحذّر الكثيرون من أبناء المنطقة من مغبّة الدخول في مواجهة غير محدودة مع العشائر في ريف دير الزّور، وربما في كامل شرق الفرات في حال استمرار “قسد” بممارسة سياستها القمعية والإقصائية واللعب الماكر على وتر “داعش”.
المواجهة بين عشائر الفرات و”قسد”.. إلى أين؟
للإجابة على السؤال لا بد من استعراض سريع لأسباب الانفجار الأخير، وقد عرجنا على سببها المباشر في مستهلّ تغطيتنا، ونقصد حادثة اغتيال الشيخ مطشر الهفل.
وفيما يلي بعض تلك الأسباب التي حصل عليها موقع “تلفزيون سوريا” من خلال تواصله مع محتجين (يتحفّظ الموقع على ذكر أسمائهم):
إطلاق “قسد” لسراح أبرز عناصر “تنظيم الدولة” المحليين، وإشراكهم في مجلس دير الزّور العسكري.
تصفية شخصيات قيادية في الجيش الحر حظيت بتقدير أهالي المنطقة أمثال إسماعيل العبد الله أبو إسحق، قائد لواء الأحواز، و ياسر الدحلة، اللذان تم اغتيالهما بطريقة تثير الشكوك حول تورط “قسد”.
الاستهتار الأمني وترك المنطقة تحت وطأة الاغتيالات.
تبنّي شخصيات قبليّة ذات سمعة سيئة.
فرض مناهج تعليميّة لا تتسق وطبيعة سكان المنطقة وإرثهم الثقافي والاجتماعي والدينيّ.
ملاحقة الناشطين المدنيين في دير الزور، و لصق تهمة (الدعشنة) بكل المناوئين لها.
كما يتساءل محتجون عن سبب اهتمام “قسد” بالخطّ الغربي لريف الدير وضبطه أمنياً، مقابل إهمالها الكامل للخط الشرقي الذي يضم حقول النفط والإصرار على بقائه بحالة فوضى دائمة!
ويؤكّد آخرون وجود خلايا تتبع للميليشيات الإيرانية وأخرى لحزب الله ولنظام الأسد داخل قرى وبلدات واقعة تحت سيطرة “قسد”، وبأن الأخيرة تعلم بأماكن وتوزع عناصر “تنظيم الدولة” دون أن تتعرض لهم، مرجحين بأن “قسد” على تنسيق مستمر مع تلك العناصر.
أما الناشط الحقوقي “عيد” -اشترط عدم ذكر اسمه بسبب إقامته في مناطق قسد- فيرى أن “قسد” قد دقّت آخر مسمارين في نعشها، الأول حين أقدمت، وهي (الميليشيا) التي لا تمثل الدولة، أقدمت على توقيع عقود النفط مع الشركة الأميركية، وهذه فضيحة غير مسبوقة في تاريخ الدول وبمثابة محاولة لتشريع سرقة النفط، وهذا ما سيجلب الويلات على “قسد” عاجلاً أم آجلاً.
والمسمار الثاني حين تم اغتيال الشيخ مطشر الهفل، فيقول عيد: “يبدو أن قسد ما تزال تجهل معنى أن تقدّم الولايات المتحدة الأميركية واجب العزاء بمقتل الشيخ وتدين اغتياله. فهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أن أميركا اليوم لم تعد ترى بعيون “قسد” كما في الأيام السابقة، ولم تعد تسمع أكاذيبها، واللقاءات تتم اليوم بالتنسيق المباشر بين العشائر والأميركان مباشرة دون الرجوع لقسد”.
ويلفت “عيد” بأن الأميركان باتوا يشعرون أن خسارتهم لأي مكوّن في تلك المنطقة سيؤدي تلقائياً لعقد صلح مع العدو الروسي، وهذا لم تعد تقبل به بعد اليوم، ولو كلفها ذلك التخلّي عن “قسد” بالكامل.
الكاتب: احمد طلب الناصر/ تلفزيون سوريا