تناول موقع “جستس إنفو”السويسري تقريراً صحفياً، حول الإجراءات المتبعة في المحاكم الألمانية مع الشهود السوريين على الجرائم التي ارتكبتها حكومة النظام؛ والقوانين ذات الصلة، و احتمالات وسبل حمايتهم من أي تهديد هم وعائلاتهم.
في مدينة كوبلنز الألمانية، مثَلَ أول الشهود من داخل النظام أمام القضاة في محاكمة تتناول التعذيب الذي يمارسه النظام السوري، وأدلى اثنان منهم، كموظفين حكوميين سابقين في جهاز إدارة المخابرات، بإفاداتٍ تجرم النظام للشرطة، فيما غلب عليهم التردد في قاعة المحكمة، خوفاً على أسرهم.
و يجيب “م.” على أسئلة القضاة، مرتجفاً، فقد دعي إلى محكمة كوبلنز ليتحدث عما شهده في الفترة التي عمل بها في إدارة المخابرات في سوريا: كيف استخدمت الشاحنات المبردة لرمي آلاف الجثث في قبور جماعية جنوب دمشق، وكيف حضر المدعى عليه إياد الغريب إحدى عمليات النقل هذه؟
ولكن بعد عامٍ على استجوابه من قبل الشرطة الفيدرالية الألمانية (BKA) ، رفض “م.” تكرار روايته في قاعة المحكمة. وبدلاً عن ذلك، قدم إجابات غامضة ومكررة، وسحب بعض أقواله السابقة، فيما جعل بعضها الآخر ضبابياً حتى أنها باتت غير مفهومة؛ فيما أخذ التوتر بالتصاعد داخل القاعة.
“م.” واحد من أول الشهود المطلعين الذين شاركوا في محاكمة الخطيب التاريخية في ألمانيا، التي تناولت التعذيب الممارس من قبل حكومة النظام في سوريا. بعد أيامٍ قليلة، تبع “م.” إلى قاعة المحكمة موظف سابق آخر في المخابرات.
وأدلى كلاهما بشهادته في محكمة علنية، ودون حماية لهويتهما (مع ذلك قررت جستس إنفو حمايتها، ذاكرة الأحرف الأولى من أسماء الشاهدين فقط). عمل كلاهما في الإدارة العامة للمخابرات في دمشق بين 2011 و 2012، وهي الفترة التي ارتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية: 58 جريمة قتل، 4000 حالة تعذيب وحالتي اغتصاب أو اعتداء جنسي. وقد قدم الشاهدين المطلعين تصريحات للشرطة يمكن أن تدين المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب.
الإجراءات الألمانية شفهية تماماً، حيث تعتمد الشهادات رسمياً عندما تقدم أمام المحكمة حصرياً. عمل “م.”، 30 عاماً، في أحد الفروع الأمنية قرب مقبرة نجها، جنوب دمشق. ومر عام واحد فقط على إخباره الشرطة أنه اعتاد تسجيل تسليم الجثث بشكل منتظم: 8,400 جثة بين نيسان / أبريل 2011 وكانون الثاني / يناير 2012، وفقًا لقائمة كان عليه إعدادها إحدى المرات.
في صباح أحد الأيام، تم تكليفه بمقابلة قافلة تسليم: شاحنتين بيك آب وشاحنة تبريد، متجهة إلى المقبرة الجماعية برفقة الغريب، على حد قوله خلال استجواب للشرطة.
تتهاوى المعلومات المتلاشية أمام المدعي العام جاسبر كلينغ على هيئة تقريرين للشرطة؛ ويعكف هو على الاقتباس منهما؛ فيما يرفض الشاهد أن يؤكد أو يكرر ما قاله خلال التحقيق. وعندما يقرر كلينغ التدخل، يلجأ إلى تذكير الشاهد بأن الإدلاء بمعلومات كاذبة جريمة جنائية ويحذره مضيفاً: “إننا نحاول إزاحة الظلم الذي هربت منه عائلتك. كشاهد وصل إلى دولة دستورية، هذا أقل ما يمكنك فعله لمساعدتنا”.
هذه معضلة يعاني منها الشاهد، فعندما دعته الشرطة الفيدرالية بعد بضعة أشهر من أجل استجواب ثالث، أخبرهم أنه لن يقول المزيد.
وبحسب تقرير للشرطة كشف عنه قضاة كوبلنز في المحكمة، أوضح الشاهد لضباط الشرطة أن عائلته وأسرة الغريب تعيشان في مدينة أورفة التركية بالقرب من الحدود السورية وأن أفراد عائلة المتهم قاموا بتهديد عائلته. كلتا العائلتين من نفس المدينة في سوريا وتعرفان بعضهما البعض. وعندما ذكر القاضي هذه الحادثة في المحكمة، كان الشاهد غير مستعد مرة أخرى لتأكيد أنه سبق وقال هذا.
أصر “م.” على أنه كان هناك سوء فهم وأن الأشخاص الذين هددوا عائلته لم يكن لهم صلة بالمدعى عليه؛ ليجيب على مضض، وبعد تنبيه من المدعي، مؤكداً روايته السابقة عن الأحداث؛ يبدو أن التهديدات قد دفعته إلى إعادة التفكير بمشاركته في المحاكمة؛ ولكنه تأخر كثيراً، فوفقاً لقانون الإجراءات الجنائية؛ يلزّم الشهود بالحضور والإدلاء بشهادتهم في حال دعتهم المحكمة.
قد يصاب بالذعر أي شخص لا تزال عائلته في سوريا، وهي حالة الشاهد المطلع الثاني. تم فرز “م.” إلى الفرع 251 خلال تأديته الخدمة العسكرية، بين 2010 وانشقاقه عام 2012. خلال جلسة الاستماع في المحاكمة المنعقدة بداية تموز / يوليو، تحدث المهندس المدني البالغ من العمر 37 عاماً عن ساحة الفرع، حيث تموضع لحراسة المباني، أو الذي مر بجانبه في طريقه إلى المهجع أو الكافيتريا.
هناك، شاهد “م.” السجناء يصلون على متن حافلات، يتعرضون للضرب، لساعات في بعض الأحيان، إلى أن يتم نقلهم إلى سجون تحت الأرض؛ سمع صراخ المعتقلين، آتياً من نوافذ تطل على ساحة السجن.
في بداية شهادته، خاطب الشاهد القضاة: “أنا قلق بشأن أسرتي في سوريا. والدتي وأخي يعيشان هناك حتى الآن وقد يحدث لهما شيء”.
فيما أجابته القاضية آن كيربر، وكان رد فعلها فظاً، “لا يعفيك هذا من التزامك بقول الحقيقة”. شاهدان قلقان على أقاربهما لكنهما مع ذلك مضطران للشهادة – هل كان ممكناً تجنب مثل هذا الوضع؟ تم إحالة العديد من الشهود إلى مكتب الشرطة الفيدرالية بسبب ما قالوه خلال جلسات طلب اللجوء الخاصة بهم. لربما ظنوا حينها أن تعاونهم مع الشرطة قد ينعكس إيجاباً على ملفات اللجوء.
ومن المحتمل أيضاً، أنهم لم يدركوا، بعد وصولهم إلى ألمانيا كلاجئين، البعد الكامل للمحاكمة المحتملة والاهتمام الذي ستحظى به. أخبرت باربرا هوبنر، الناطقة الإعلامية للشرطة الفيدرالية الألمانية، “جستس إنفو”، أن الشهود يتم إبلاغهم بأن الإدلاء بالشهادة في المحاكم الألمانية علني، ويجري ذلك قبل تقديمهم إفادات للشرطة. لكن يبدو أن أي من الشاهدين لم يكن قد أبلغ بالأمر الذي يورط به نفسه وعائلته، عندما قدم تصريحاتٍ للشرطة أول مرة.
يسمح قانون الإجراءات الجنائية في ألمانيا للشاهد بتقديم إفادته مع الحفاظ على هويته سراً، إذا “كان هناك سبب وجيه للخوف من أن الكشف عن هوية الشاهد أو مكان إقامته سيعرض حياة الشاهد أو شخص آخر، جسده أو حريته للخطر”.
وينص القانون أيضاً على أنه يجب إخطار الشاهد بهذا الاحتمال إذا ما دلت مؤشرات كافية على وجود خطر كهذا. “عندما تكون حياة ما في خطر، يجب ألا تكون العتبة لما يمكن اعتباره خطراً عالية جداً” قال ماركوس شميت، المتحدث الإعلامي باسم كبير ممثلي الإدعاء، الذي أضاف أنه لا يرغب بالتعليق على إجراء قائم.
ومع ذلك، ربما لا يوجد شاهد سوري واحد في هذه المحاكمة ليس لديه أفراد عائلة خارج ألمانيا، فيما لا يزال الكثير منهم في سوريا؛ في حين أن الحماية الوحيدة التي يمكن أن يقدمها القضاء الألماني لعائلاتهم هي إبقاء الشهود مجهولين.
كما صرحت مصادر مقربة من المحكمة لـ جستس إنفو أن العديد من السوريين سيشهدون في الأشهر المقبلة دون ذكر أسمائهم وعنوانيهم، بل إن بعضهم ستخفى وجوههم. “إن إثبات الحقيقة هو أسمى مبادئ العمل القضائي، ولكن يجب ألا نتوصل للحقيقة بأي ثمن” أضاف شميت. “يجب أن تؤخذ مصالح الشاهد في عين الاعتبار”.