سألتني إحدى الصديقات عن حقيقة ما يحصل على السوشال ميديا السورية فيما يخص السجال والتراشق حول بعض منشورات تضمنت رأياً يخص الأثر السلبي لقيادة بعض أبناء الريف للثورة في سوريا، وهو ما استدعى رداً عنيفا من قبل شرائح واسعة دون محاكمة الفكرة منطقيا، باستثناء بعض الكتابات التي حاولت تفسير هذه الجدلية ومنها ما جاء بقلم د. أحمد برقاوي.
جوابي على السؤال كان نوعاً من الدعابة المقصودة، وقلت إن معظم من تعاملوا مع المسألة على طريقة الصراع والقدح، سواء كانوا مع أو ضدّ، هم من العاطلين ـ إكراها ـ نتيجة ظروف السوريين الصعبة وهو أمر مبرر ومفهوم، ومع الكسل الحاصل تحت تأثير الحجر الصحي الذي دام لأشهر وجد الكثيرون في “السوشال ميديا” مكانا لقتل الوقت والحصول على المعلومة دون التدقيق فيها، وإخضاعها لمحكمة العقل، أو النقد المنطقي.
وبما أن الحديث في سياقه عن الكسل، وجدت نفسي أقرأ في صراع الطبقات الاجتماعية، حتى وصلت إلى كتاب “الحق في الكسل” للكاتب والصحفي اليساري الفرنسي “بول لافارج”، وهو زوج “لورا” ابنة كارل ماركس، ووضع كتابه ردا على مواطنه الاشتراكي لويس بلان صاحب كتاب “الحق في العمل”.
وعلى عكس ما أعتقد تبين أن لافارج يعتبر أن الكسل مصدر مهما للتقدم البشري، وهو يشير إلى أن تقديس العمل هو في مضمونه عملية برمجة أيديولوجية الطبقة العاملة لرفع الإنتاج، وبالتالي تعود المنافع للطبقة الرأسمالية دون غيرها.
ويرى بعض من حلّل كتاب “الحق في الكسل” أنه جاء ضد تطرف استحواذ السلطة الرأسمالية داخل المجتمع الصناعي والفلاحي الأوروبي”، وأن البروليتاريا القادمة من المجال الفلاحي وملامستها للوعي السياسي والفكري والثقافي كان لها كبير الأثر في تحصيل العديد من الحقوق داخل المجتمعات. بالعودة إلى الجدل السوري، والذي لم أشهد مثل حدته في مجتمعات عربية عاينتها، وإن كانت كامنة وتتبدّى بالنكتة أو التندّر كما يشاع حول بساطة أبناء الصعيد المصري، فإن المشكلة الاجتماعية السورية سببها الأول أن السلطة خلقت هذه المشكلة منذ ستينيات القرن الماضي، وبدأت بعملية التأميم التي جرت في عهد الوحدة برئاسة جمال عبد الناصر بين عامي 1958 و1961، وتابعها حزب البعث، ورسخها حافظ الأسد، وكان الخاسر الأكبر فيها هم التجار الكبار من أصحاب المصارف والمصانع والمشاريع الزراعية، وهم في الغالب من أبناء المدن الذين لعبوا دورا بارزا في استقلال سوريا وتطورها خلال العهد الوطني.
خلّفت عملية التأميم حقدا لدى الشريحة المتضررة، لكن الريف ظلّ يعاني التجهيل وضعف التنمية، وفي فترة ما قبل التأميم كان فلاحو قرية كاملة يضعون كل موسمهم في يد تاجر مديني يعود ليقرضهم ثمن ما يعيشون به في سنوات القحط، وهذه معادلة اقتصادية عاشتها جميع المجتمعات البشرية وإن بصور مختلفة.
في مرحلة لاحقة عندما أرادت الرأسمالية السورية إعادة بناء نفسها، كانت العودة مشروطة بالشراكة مع أبناء الضباط ومسؤولي الحزب وهؤلاء هم من أبناء الريف القادمين إلى المدينة، وتشكلت حينئذ “الأوليغارشيا”، وهي حكم فئة قليلة للسياسة والمال، وهي محصورة بيد أسر معينة مرتبطة ارتباطا عضويا بالنظام ورأس السلطة، وتطور الأمر لتكون العائلة هي المسيطر على مفاصل الاقتصاد والأمن، وهو ما نشأت عنه اشتباكات أخيرة بين رامي مخلوف وبشار الأسد لم تنته، وسيطال أثرها كل الذين عملوا واجهات لهذه العائلة وغالبيتهم من تجّار المدن المنتفعين.
صحيح أن بعض أبناء الريف سيطروا على مفاصل الدولة، وأن هؤلاء نفسهم دفعوا بمجاميع من أبناء الريف البائس إلى احزمة أكثر بؤسا، أحاطت بالمدن، إلا أبناء الريف في الأحزمة وكذلك الذين بقوا في قراهم كانوا الضحية الأولى، وأبناء المدن الذين خسروا تجارتهم في ظلّ سلطة فاسدة كانوا الضحية الثانية، وأما المسؤولية عن هذا الواقع فهي مشتركة بين تجار المدينة وحزبيي وضباط الريف، بل إن كثيرا من أبناء المدينة أعادوا حساباتهم واستطاعوا اختراق حزب البعث، وأصبحوا من أهم قياداته خلال العقدين الأخيرين.
فيما يخص المسألة الثقافية، فإن الحديث عن حقد مجتمعي بين أبناء الريف والمدينة، هو مجرد أقاويل تنتهي عند أول مصلحة مشتركة، ومثل ذلك كان موجودا في المجتمعات الأوروبية، وذاب الفرق ـ على سبيل المثال ـ بين “البروفانس” أو “الباييزان” الفلاحين و”الباريزيان” المتمدنين في فرنسا.
وليس ما يقوله البعض مؤخرا في منشورات ضد أبناء الريف مختلفا عن أحاديث يتداولها أبناء الريف عن المدينة وتجارها في السر والعلن على أنهم ضحوا بكرامتهم من أجل المال وحموا السلطة، علما أن كثيرا من أبناء المدن هم جزء أصيل في الثورة، بل وجزء في المعارضة السياسية، وهذا الجدل يستحسن أن يتحول إلى نقاش عميق في الأسباب التي أخذت السوريين إلى هذا المكان، سنوات طويلة من الاستلاب وحكم القبضة الأمنية، تبعتها تسع سنوات من النضال الثوري، تخللته عمليات خطف للأنظار ومحاولات لتغيير المسار نفذتها مجموعات متشددة، وهياكل سياسية مفتتة وعاجزة.
ملايين السوريين أبعدوا قسراً عن بيوتهم وحقولهم ومعاملهم، وباتوا رهنا لتدوينة في “فيسبوك” أو خبر على موقع إلكتروني، وصار هناك جيش من المحليين الذي لا يملكون المعلومة، لعلها الرغبة في معالجة “الكسل” من قبل شعب محبّ للحياة والعمل، لكن، هناك من ينفخ في كير الكراهية في زمن لا خبز فيه ولا وطن.