نحن الذين قضينا طفولتنا في ثمانينات القرن الماضي..جيل كامل كانت لبنان بالنسبة لنا بلاد مصباح علاء الدين… رغم الحرب المشتعلة فيها، والاقتتال الطائفي الذي كان يشمت فيه إعلامنا الممانع ليل نهار، ويتغنى ببلدنا، دولة الأمن والأمان، إلا أن الأمن والأمان لم يكن يعطينا أياً مما كان يأتينا من الشقيقة، فالموز من لبنان …المناديل الورقية من لبنان …الأحذية الرياضية والثياب الجميلة من لبنان … الكتشب، الشوكولا، الحليب المجفف، الزبدة حتى الخبز الجيد من مخابز دولة الحرب، والكثير، الكثير من السلع المفقودة في سوريا كانت تصلنا -تهريب – من هناك.
اليوم تنقلب الأمور وتصبح سوريا بلد الحرب وتبقى لبنان الرئة التي يتنفس السوري المطحون من خلالها، لتصير لبنان معبراً للهروب من الجحيم السوري إلى بلاد الله الواسعة، أو ملجأً مؤقتاً للهاربين من جحيم الحرب، وتبقى أيضاً مصدراً لكل السلع الأساسية التي فقدت في سوريا، ولكن هذه المرة على حساب الداخل اللبناني وليس فائضاً إضافياً عن لبنان.
اليوم تهّرّب المحروقات، والمواسم الزراعية والأدوية وكل ما تحتاجه دمشق من لبنان، متناسين أن لبنان أصلاً يعاني من أزمة اقتصادية مضاعفة مليئة بالديون المُثقِلة لكاهله كبلد (هذا إذا اعتبرنا لبنان دولة مستقلة).
يقفز سعر صرف الدولار في السوق السورية، تتدخل الحكومة لتدعم السعر وتعيد القليل من الاستقرار لسعر الليرة السورية، فتمد يدها بكل أريحية على البنوك اللبنانية، تفرغها من الدولار، يتراجع سعر الصرف في سوريا، وتهبط الليرة اللبنانية هبوطاً غير مسبوق لم تشهده حتى في أيام حربها… لكن يبقى وضع اللبناني بكل الظروف أشوى قليلاً من وضع المواطن السوري في الداخل فاللبناني على الأقل، يقبض مرتبه بالدولار ويعيش بالدولار، أما في سوريا فالموظف يقبض مرتبه بالليرة والمسؤول يصرف بالدولار.
يتأثر لبنان بالوضع السوري تأثراً مباشراً في تلازم عضوي لمسار البلدين، لبنان خاصرة سوريا -هكذا كان النظام السوري يراها – ويعيث فيها بكل شي، ولبنان هو رئة سوريا – هكذا كنا نراها- لكن لبنان اليوم ضحية وأداة مساعدة في الخراب السوري.
يتفاقم التباطؤ في النشاط الناجم عن العلاقات التجارية والسياحية والمالية للبلدين بسبب الحرب بين مؤيدي دمشق ومعارضيها، ويقع البلد بين حيص وبيص في دولة حزب الله والعهد (حكومة ميشيل عون) المؤيدة لنظام القتل السوري وبين تيارات تريد للبنان الاستقلال الحقيقي في المسار السياسي والاجتماعي والتاريخي ومثالهم تيار 14/ آذار، ويتخبط البلد الصغير بين حانا ومانا.
تحصد لبنان فشل التعطيل السوري لعجلة السياسة فيه، وتحصد سوريا مزيداً من الحقد على اللاجئين السوريين داخل لبنان والذين لا حول لهم ولا قوة، فيصبح السوري في لبنان ضحية النظام الذي فر منه، وضحية اللبنانيين الكارهين لسوريا منذ عقود، جراء ما عانوه من تبعات ممارسات التواجد السوري في لبنان، طيلة ثلاثين عاماً … وضحية اللبناني الموالي لسوريا الحاقد على السوري الفار من الحرب السورية والذي ينظر إليه على أنه خائن وعميل ومعارض حتى لو يكن كذلك، فتكثر حوادث الاضطهاد بحق السوريين وينقسم الشارع بين متشفٍ بالسوري وبين مدافع لبناني ينطلق في دفاعه بنوايا إنسانية بحتة بعيدة عن السياسة، ويبقى السوري ضحية تمييز قانوني بحقه من جميع الجهات، في حين يأمن اللبناني المعتدي في بلده من القصاص، فالقضاء اللبناني ليس بعيداً أيضاً عن التبعية المطلقة لحكومة موالية للنظام السوري، وفي نفس الوقت من أهواء الحقد على السوريين وتعبهم للبنانيتهم ضد السوري الغريب، لمجموع الأسباب التي ذكرتها سابقاً، فلا عقوبة رادعة تأتي، ولا يُحاسب معتدي، ويبقى السوري هناك ملطشة للجميع، والأمثلة كثيرة، وكثيرة جداً، فمن نجاة زوج نانسي عجرم بفعلته، وخبو نار القضية التي أشعلت الصحف والمحطات والرأي العام، إلى اغتصاب الطفل السوري قبل أيام علناً، وبتفاخر، ومع معرفة هوية المغتصبين إلا أن القانون لن يأخذ مجراه، فالمعتدون ينتمون لحزب يحميهم، والسفارة السورية في بيروت تعتبر ان الطفل القاصر على ما يبدو يستحق ما حصل له، ولا يريدون إغضاب الحزب حليفهم في القتل، فالطفل بالنسبة لهم معارض بن معارض ويستحق الموت أيضاً وليس الاغتصاب فقط، أما باقي العنصريين من سوريين ولبنانيين فكان موقفهم أسوأ من الجميع مبررين الحادثة، ومعتبرين أن الطفل هو الملام على مبدأ من يقول إن التحرش بالمرأة سببه لباس المرأة وإغوائها للمتحرش وهنا يتنمرون على الطفل ويعتبرونه مثالا للسوري الهارب من سوريا أو حتى أغوى مغتصبيه، ويا للكارثة على هذه العقول.
ويبقى تلازم المسارين السوري- اللبناني في الضراء دائماً ولم نلمس وحدة هذين المسارين بأي شيء يخدم البلدين أو الشعبين، إلا ما نراه اليوم بوحدة المسار الذي يتجه نحو الانهيار والمجاعة بسرعة البرق.