“لمستقبل أكثر عدالة”…دعوى في ألمانيا لإنصاف ضحايا العنف الجنسي

قدّم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR) بتاريخ 17 حزيران 2020 دعوى جنائية إلى المدعي العام الألماني الفيدرالي بالشراكة مع شبكة المرأة السورية (SWN) ومنظمة أورنامو,  نيابة عن سبعة ناجين و ناجيات من الاعتقال ومن جرائم العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي أو كانوا شهوداً عليها، للمطالبة بتوسيع التحقيقات والمقاضاة في هذا النوع من الجرائم المرتكبة والتي مازالت ترتكب بالمعتقلات السورية وإدراجها كجريمة ضد الإنسانية.

 

 العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية

جاءت دعوى المركز، بعدما  كانت الدعاوى السابقة ضد مسؤولين رفيعي المستوى في أجهزة الدولة السورية،  وكان آخرها الدعوى ضد رئيس فرع التحقيق في فرع الخطيب بدمشق العميد أنور رسلان، قاصرة عن تصنيف العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي كجريمة ضد الإنسانية، حيث ورد في مذكرة الاتهام ضد رسلان جريمتا عنف جنسي فقط، بالإضافة إلى تهم التواطؤ في جرائم القتل والتعذيب، إلا أن هاتين الجريمتين وردتا كجرائم فردية تُجرّم بمقتضى القانون الألماني ولم يتم إدراجهما تحت البند 7 (1) رقم 6 من القانون الجنائي الدوليCCAIL  والذي يصنف  العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي كجريمة ضدّ الإنسانية كما ذكرنا أعلاه، ما أغفل حقّ الضحايا في الحصول على الاعتراف بهذه الجرائم في وثائق قضائية دولية تحقق لهنّ الإنصاف والاعتراف العام وإعادة الاعتبار والأمل بالوصول للعدالة والتعويض عن الضرر.

 

زوجة رياض سيف تكشف أسباب مساعدته العقيد "أنور رسلان" في اللجوء إلى ...

 

 

 

العنف الجنسي وجهود العدالة:

حيث إن النظام السوري ليس طرفاً في نظام روما الأساسي، فقد كان الطريق الوحيد لإيصال الملف السوري لمحكمة الجنايات الدولية هو إحالته إليها من قبل مجلس الأمن الدولي، لكن الفيتو الروسي وقف دون ذلك منذ عام 2013. وبناءً على هذا الواقع فقد كان المسار القضائي الوحيد المتاح للمحاسبة والعدالة هو الولاية القضائية العالمية والتي تعطي الاختصاص لدولة لا علاقة لها بالجرائم (أي لم ترتكب الجرائم على أرضها ولا يحمل أي من المرتكبين أو الضحايا جنسيتها) صلاحية التحقيق والتقاضي عن الانتهاكات  الجسيمة التي تشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب الواقعة في أي بقعة في العالم،  طالما أن الدولة التي ارتكبت الجرائم على أرضها لا تقوم بمساءلة المرتكبين. وقد كانت ألمانيا السباقة على هذا الصعيد بخصوص الوضع السوري ، حيث قدم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان-ECCHR  في آذار 2017 مع سبع نساء ورجال من الضحايا وبالشراكة مع المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية والمركز السوري لحرية الإعلام والتعبير أول دعوى قضائية للمدعي العام الألماني واتبعتها بثلاث دعاوى أخرى في ألمانيا ودعوى في كل من النمسا والسويد والنرويج ليصل عدد ناجين وناجيات الاعتقال والتعذيب والعنف الجنسي الذي يدعمهم المركز إلى حوالي المائة ناجية وناجٍ من الاعتقال.

جرائم التعذيب الجنسي في سوريا أمام المنظمات الحقوقية الدولية

لم تكد تمضي أشهر قليلة على بداية الثورة السورية في آذار 2011، حتى بدأ السوريون يسمعون عن جرائم العنف الجنسي والفظاعات التي تُرتكب أثناء اقتحام نظام الأسد وميليشياته للقرى والبلدات السورية. وتواترت الروايات المريعة التي تحكي عن تعرية النساء والفتيات واغتصابهن أمام آبائهن وأزواجهن وأبنائهن، وتعرية الرجال وقتلهم أمام نسائهم وأطفالهم، وكذلك اختطاف النساء واحتجازهن في شقق سكنية أو معسكرات الجنود أو اقتيادهن إلى المعتقلات.

وقد ظهرت هذه الجرائم على المستوى الدولي في أول تقرير أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا[1] في 23 تشرين الثاني 2011[2] ، بعد أشهر قليلة من تشكيل هذه اللجنة في  22 آب 2011 ، بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان وقد كلفت بالتحقيق في جميع الانتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان وتحديد المسؤولين عنها، بغية ضمان مساءلة مرتكبي هذه الانتهاكات، بما فيها الانتهاكات التي تشكل جرائم ضد الإنسانية.

الصفحة الرئيسية - اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة

وقد ورد في الفقرات 66، 67 و68 في التقرير شهادات عن ممارسة التعذيب الجنسي على المعتقلين الذكور، وعلى إجبارهم على خلع ملابسهم والبقاء بالعراء، وعن حالات ضرب على الأعضاء التناسلية وممارسة الجنس قسراً عن طريق الفم، وعن تهديد المعتقلين مراراً وتكراراً بالاغتصاب أمام عائلاتهم وباغتصاب زوجاتهم وبناتهم. وفي تقريرها الصادر في آب 2012[3]، ورد في الفقرات 96-102 شهادات عن العنف الجنسي المرتكب بشكل ممنهج وواسع النطاق.

وقد بنيت هذه الفقرات على 43 مقابلة أجريت حول حوادث عنف جنسي ضد رجال ونساء وأطفال ارتكبتها القوات الحكومية وجماعات الشبيحة منذ شباط 2012، وأفاد التقرير في الفقرة 100: “واصلت اللجنة تلقي تقارير عن الاغتصاب والاعتداء الجنسي في مراكز الاعتقال، والتي تُرتكب عادةً كجزء من التعذيب و/ أو سوء المعاملة ووردت تقارير عديدة عن تعرض معتقلين لصدمات كهربائية لأعضائهم التناسلية أثناء الاستجواب.”

 

وفي تقريرها في شباط 2015 ورد في الفقرة 178: “تشير روايات ثابتة إلى أن النساء المحتجزات في مرافق الاحتجاز التي تديرها مديرية الأمن العام في دمشق يتعرضن للعنف الجنسي.” بالإضافة الى تقارير لجنة التحقيق الدولية جاء تقرير لجنة الإنقاذ الدولية في الشهر الأول من عام 2013 المبني على ثلاثة تقييمات أجريت في لبنان والأردن وسوريا، والتي أكدت أن الاغتصاب سبب أساسي في فرار عائلات من سوريا وقد دعت في تقريرها الى معالجة عاجلة لهذه القضية.  وتحدّثت العديد من النساء والفتيات،  وفقا للتقرير، عن “التعرض لاعتداءات في العلن أو في منازلهن، وبشكل أساسي من قبل مسلحين، وحوادث الاغتصاب تلك، غالباً ما تحدث أمام أفراد الأسرة”، وذكرت اللجنة كذلك إنها أُبلغت باعتداءات تم فيها خطف نساء وفتيات واغتصابهن وتعذيبهن، ثم قتلهن، موضحة أن الضحايا نادراً ما يبلّغن عن العنف الجنسي بسبب “الأعراف الاجتماعية ووصمة العار التي يلحقها الاغتصاب بالنساء والفتيات وأسرهن”.

 

وتوالت تقارير المنظمات الحقوقية السورية والدولية والتي وثقت الكثير من جرائم العنف الجنسي التي يرتكبها النظام بشكل ممنهج وواسع النطاق. وفي آذار 2018 صدر عن مجلس حقوق الإنسان تقرير تحت عنوان “فقدت كرامتي” [4] تناول العنف الجنسي والجنساني في الجمهورية العربية السورية، والذي استند إلى 454 مقابلة مع الناجين/ات وأقارب الناجين/ات وشهود العيان والمنشقين وممارسي الرعاية الصحية والعاملين الطبيين والمحامين وأعضاء المجتمعات المتضررة.

تثبت كل التقارير والوثائق الأنفة الذكر وغيرها الكثير، بما لا يقبل مجالاً للشك، استخدام نظام الأسد جرائم العنف الجنسي والاغتصاب كسلاح حرب   شديد الفعالية في تفكيك المجتمعات وإعاقتها وتدمير نسيجها الاجتماعي، وهو يراهنً على حساسية هذه الجرائم ومحاذير الإفصاح عنها من قبل الضحايا وخصوصاً في مجتمع محافظ كالمجتمع السوري، والذي لا يعطي في الغالب للناجيات والناجين من العنف الجنسي فرصة للتحدث عن تجاربهن/م فحسب، بل على العكس من ذلك، تراه يتعامل معهن/م بشكل سلبي وقد يصل الأمر إلى نبذ الضحايا من قبل عائلاتهن/م ومجتمعاتهن/م ووصمهن/م بالعار وخصوصاً النساء، اللواتي يعتبرن حاملات لشرف العائلة والمجتمع، الأمر الذي يعطي الأسد الفرصة للإفلات من العقاب على هذه الجرائم الفظيعة.

العنف الجنسي والقانون الدولي:

جرّم القانون الدولي العنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي كجرائم ضد الإنسانية[5] نظراً لخطورتها ولآثارها المدمرة على المجتمعات وقد عددت الفقرة السابعة  من المادة السابعة من نظام روما الأساسي، والذي يعتبر أساس القانون الجنائي الدولي، بعض هذه الجرائم ” كالاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري, أو التعقيم القسري ، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة” والتي طالما “ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم” وهو تعريف “جرائم ضد الإنسانية ” كما جاء في نظام روما.

وقد جرت أحكام المحاكم الجنائية الدولية على تجريم العنف الجنسي بمعناه الواسع، كما أكد مكتب المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية  أن العنف الجنسي لا يقتصر على العنف الجسدي، بل قد لا ينطوي على أي اتصال جسدي، كالتعرية القسرية. ولهذا تغطي جرائم العنف الجنسي الفعل الجسدي (الفيزيائي) وغير الفيزيائي أيضاً إذا توفر فيه العنصر الجنسي.

وعليه فإن ما أبلغ عنه الناجون والناجيات من أشكال العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي – الجسدي وغير الجسدي- مثل الاغتصاب أو التهديد به والتحرش الجنسي و العنف الجنسي اللفظي وتفتيش المناطق الحميمة وتشويه الاعضاء التناسلية, بما فيه العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي كالاجهاض القسري والتعرية القسرية هي جرائم ضد الانسانية طالما ارتكبت كجزء من هجوم واسع النطاق ومنهج ضد السكان المدنيين.

 

 

خاتمة

إن كشف جرائم نظام الأسد وأجهزته الأمنية بما يتعلق بالجرائم الجنسية والقائمة على النوع الاجتماعي والاعتراف بها، هو ضرورة اليوم، لأنه سيؤسس بلا شك لمستقبل أكثر عدالة للسوريات والسوريين وسيفسح المجال للضحايا بمقاضاة المرتكبين والحصول على تعويض عن الضرر الجسيم الذي لحق بهم وخصوصاً النساء. إذ حان الوقت لتسمية الأمور بمسمياتها والتوقف عن المواربة والالتفاف على الاعتراف بها صراحةً باعتبارها: جرائم ضد الإنسانية. ولا بد من تدارك فشل التحقيقات الألمانية السابقة في الاعتراف بها عبر توسيع التحقيقات من قبل كوادر مؤهلة تأهيلاً كافياً للتحقيق في هذا النوع من الجرائم.

 

قد يعتبر البعض أن العنف الجنسي هو نوع من أنواع التعذيب، لكن يجب اعتباره جريمة منفصلة، لأنه أكثر تأثيراً وعمقاً في أعماق الضحايا، فالإهانة ومحاولات الانتقاص من الرجولة تترك ندباً عميقة مديدة من الصعب معالجتها، وكذلك الأمر بالنسبة للضحايا من النساء إذ إن لها آثاراً جسيمة على حيواتهن وعائلاتهن وعلى فرصهن في العمل والاستمرار في الحياة.

 

 

 

 

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...
ماروتا سيتي دمشق

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...
جمعية الأمل لمكافحة السرطان

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...

الأكثر قراءة