في بداية صيف عام 2011، نُشر تقرير في موقع فورين بوليسي “النسخة الإنكليزية”، يتنبأ فيه واضعوه باستمرار الحرب في سوريا لمدة عشر سنوات. في الواقع، لم يكن هناك من حرب بعد كما نص تقرير الموقع الذي يراه البعض مقرباً من دوائر صنع القرار في واشنطن. مع دخول حرب بوتين الأوكرانية شهرها الثالث، هناك تنبؤات لخبراء غربيين مفادها أن الحرب قد تستمر حتى عام 2035، لكن من دون التورط في تصورات نهائية عما ستؤول إليه. أيضاً مع دخول الشهر الثالث للحرب، هناك خبر لا ينافس الأخبار الحربية على الصدارة؛ مفاده أن رقم اللاجئين الأوكرانيين إلى الخارج تجاوز الخمسة ملايين، مع التذكير بأنه لا يتضمن الذكور في سن القتال الممنوعين من المغادرة. عدد اللاجئين الضخم، وبسرعة قياسية، أثار بسرعة مماثلة تخوفات في أوروبا حيث يصعد هنا وهناك اليمين المتطرف المعادي للاجئين والمهاجرين، والذي لن يستثني الأوكرانيين من خطابه بسبب لون البشرة أو لون العيون. هناك مصدران للتذمر ليسا في صالح الأوكرانيين، اللاجئين وارتفاع الأسعار الذي صارت الحرب عنواناً له معفية كورونا من تبعاتها الاقتصادية.
في الغضون، تستمر الجهود الأمريكية أولاً ومن ثم الغربية من أجل منع انتصار بوتين، ومن أجل استنزافه في أوكرانيا بحيث يدفع ثمناً أكبر بكثير من الهدف الحالي المتواضع، بعد تراجعه عن هدف احتلال كامل أوكرانيا. يلفت الانتباهَ أن تسليح الجيش الأوكراني صار إعلامياً بمثابة شأن تقني، ما يشي بطبيعة النظر إلى الحرب ككل، وقد صار يُنظر إليها كاختصاص للسياسيين والعسكريين، وهي بذلك خارج دائرة الاهتمام الحقيقي للجمهور الواسع المتضرر من عواقبها الاقتصادية، أو مما يراه البعض خطراً بتدفق اللاجئين.
التوقعات المطروحة للنهاية، أي بعد سنوات بموجب تنبؤات دارجة، أكثرها تفاؤلاً ينص على هزيمة كاملة لبوتين. التنبؤات الأوسع انتشاراً تنص على استيلائه على دونباس وربما على بعض الأجزاء الجنوبية من أوكرانيا، بعد حرب استنزاف طويلة، عسكرياً واقتصادياً، وهذا يرشح أوكرانيا لتنتهي على المثال الألماني، فتنقسم لعقود على الأقل بين واحدة غربية وأخرى شرقية بمسميات روسية.
ما يجدر الانتباه إليه أن النقاش في مختلف السيناريوهات صار تقنياً أيضاً، أي بحساسية متدنية تجاه المتأذين الأوكرانيين، قتلاً أو نزوحاً أو تهجيراً. وخلال شهرين فقط انحسرت موجة التضامن أو التعاطف الإنسانيين، لتعود الشعوب إلى همومها الخاصة، وربما لتتمنى الغالبية انتهاء الحرب كيفما كان إذا عنى ذلك التخففَ من آثارها السلبية على أسعار السلع اليومية.
في الأصل، منذ بدء الحرب، لم ينزل مئات الألوف في العواصم والمدن الغربية تنديداً بها. أعداد الذين فعلوا ذلك أقل مثلاً من الذين تظاهروا في حقبة خلت ضد سياسة تكسير العظام الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهي أعداد لا تُقارن إطلاقاً بالمظاهرات المليونية التي عمت عواصم ومدن العالم رفضاً وإدانة للغزو الأمريكي للعراق. لم يمنع حينئذ نزولَ ملايين المتظاهرين الأوروبيين وجودُ ملايين اللاجئين العراقيين المعارضين لصدام حسين، ولم يُستخدم التخويف من تدفق المزيد منهم ذريعة مع الحرب أو ضدها.
كان الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد شبه مصير مدينة ماريوبول بمصير مدينة حلب السورية التي دمر نصفها الشرقي طيران بوتين، ولم يؤرّقْ ذلك حينها الضمائر بحيث تشهد شوارع مدن العالم تضامناً مع حلب وشجباً لسياسات الحكومات غير المبالية. ذلك لم يحدث أيضاً مع تدمير ماريوبول الأوكرانية، بل بتسارعٍ تراجعَ الاهتمام العالمي بالحرب فلم يلقَ مصيرها الانتباه المستحق في تناغم مع الإعراض عن الاهتمام بالحرب ككل.
من المؤكد أن الحكومة الأوكرانية حظيت وتحظى بدعم عسكري كبير، غايته إلحاق خسائر باهظة ببوتين، ومن ضمن الدعم أسلحة نوعية جداً تمنت المعارضة السورية نيل ما هو أدنى منها من أجل إسقاط الأسد، إلا أن السياسة الأمريكية “أيضاً وأيضاً” هدفت إلى إلحاق الخسارة به لا إلى هزيمته النهائية. فهمُ هذه السياسة هو وراء توقعات عن حرب طويلة في سوريا، ثم حرب طويلة في أوكرانيا، فلا مؤامرة في التنبؤات، وإنما هي قراءة واضحة لسياسة ومصالح واضحتين.
وقد يجوز القول أن سيناريو أوكرانيا هو مزيج من المصير الألماني في نهاية الحرب العالمية الأولى والسوري كما نراه الآن، بينما يحضر النموذج الأفغاني من زاوية القدرة على استنزاف روسيا لا أكثر. فيما عدا إمدادات الأسلحة ونوعيتها، لا نخطئ في القول أن السوريين نالوا تعاطفاً غربياً يزيد أحياناً عما ناله الأوكرانيون، ويزيد في المحصلة من حيث مدة الاهتمام قبل انحساره أو انقلابه إلى تذمر وتبرّم؛ هذا على العكس تماماً من الفكرة التي سرعان ما راجت عن تمييز غربي لصالح الأوكراني. الحق أننا جزء من العالم الذي فقد سريعاً اهتمامه بالقضية الأوكرانية، وقد يستأثر بانتباهنا حدث مثل تدمير الطراد الروسي موسكفا أكثر من تدمير ماريوبول وفي الخلفية من تفكيرنا تململ يقول: هذه هي الحرب وهذه هي مآسيها المعتادة.
والعبارة الأخيرة ينبغي ألا تكون مدخلاً لقبول ما يحدث على أنه من الطبائع، فالواقع الحالي السائد متراجع عن صعود النزعة العالمية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وكان من نصيب المنطقة ذلك التعاطف مع القضية الفلسطينية ومعاداة الغزو الأمريكي للعراق. بمعنى أن الانغلاق وانعدام الحساسية تجاه قضايا الشعوب الأخرى ليس موجهاً ضد الشعوب العربية أو الإسلامية حصراً، والعالم يستحق النقد والتقريع بسبب هذا الانحدار المعمم لا من موقع مظلومية يعتقد أصحابها أنهم الاستثناء من عالم متكافل متضامن.
لن تسود العالمَ علاقات إنسانية نموذجية، لكن ليس قدر البشرية أن تكون بهذا السوء الذي نراه. الأكثر سوءاً أن ذلك لم يعد يلقى الاحتجاج سوى من قلة مبعثرة، ومن المؤسف أن حصتنا من هذه الفئة متواضعة جداً؛ هكذا كانت حصتنا أيضاً عندما كان العالم أفضل.
عمر قدور _ المدن