في الطبيعة، يمكن الكلام عن واقع موضوعي مستقل عن الوعي، ويمكن الوثوق في أن للواقع الطبيعي “الموضوعي” الكلمة النهائية دائماً، فالسراب الذي يتخيّله مسافر لا يمكن أن يتغلب، في أي حال، على حقيقة الصحراء القاحلة. كما لم تغير القناعة الراسخة للناس أن الأرض هي مركز الكون، من حقيقة أنها جرم صغير يدور حول الشمس. أما في الواقع الاجتماعي، على خلاف الواقع الطبيعي، يتغلب الوعي على الواقع، بمعنى إن تصورنا عن الواقع الاجتماعي، أو شكل وعينا به، أهم من الواقع كما هو، أي أهم من الواقع الذي اعتدنا أن نسميه “الواقع الموضوعي”، المستقل عن المشاعر والوعي. ويتغير الواقع الاجتماعي مع تغير تصورنا عنه.
إلى أي حد يمكن القول بوجود واقع اجتماعي مستقل عن الوعي؟ أم أن الواقع الاجتماعي لا يعدو كونه الصورة التي نعي وفقها هذا الواقع؟ لنفترض أن للواقع الاجتماعي الموضوعي وجوداً ما، وأن غالبية الناس تعي هذا الواقع بطريقة مخالفة تماماً أو مخالفة بدرجة معينة، لهذا الوجود أو لما هو عليه “موضوعياً”، فما هو الواقع الغالب أو المؤثر في هذه الحال، هل هو الحقيقة التي في الواقع أم “الحقيقة” التي في الوعي؟ هل هو الواقع “كما هو” أم الواقع “كما نتصوره”؟. إذا تقدمنا خطوة أخرى على هذه الطريق، يجوز لنا أن نتساءل: طالما أن هناك واقع واحد، فحين يكون التصوّر عن الواقع (كلامنا دائماً عن الواقع الاجتماعي) مخالفاً لحقيقته، أيهما يكون الواقع، ما هو قائم وغير مُدرك، أم ما هو مُدرك وغير قائم؟ أو بطريقة أخرى، هل الواقع، في هذه الحالة، هو الحقيقة أم الزيف؟ ولكن، في النهاية، أليس التصوّر الزائف عن الواقع، هو بدوره حقيقة، أي واقع قائم بذاته؟
يمكن أن تتلبّس الجريمة شخصاً أراد أن ينقذ شخصاً مطعوناً، ويمكن أن يؤخذ هذا الرجل الشهم على أنه المجرم، ويحكم عليه بالإعدام، لأنه اعتُبر في الوعي مجرماً. كما هو واضح هنا، لا تتغلب الحقيقة الموضوعية على الحقيقة الذاتية (القناعة العامة) التي تشكّلت عن الرجل. وفي الوقت نفسه، سوف يعيش المجرم الحقيقي على أنه بريء، بحسب تصوّر الناس عنه، أو كما تقول “الحقيقة الذاتية”. كما ينطبق هذا الحال على الأفراد، كذلك ينطبق على المجموعات وعلى الأنشطة العامة، وهو ما يعطي دوراً حاسماً لتصوير الواقع وصياغة القناعات ونشرها بين الناس. الواقع الاجتماعي الغالب هو تصوّرنا عن هذا الواقع، لأن البشر لا ينشطون في واقعهم، إلا وفق وعي أو تصور محدد عن هذا الواقع. والكلام هنا، وهذا هو القصد، لا يتحدّث عن قناعات سياسية أو فكرية، بل عن قناعات تخصّ حقيقة ما يجري في الواقع، ولنسمها “الواقع الخام”، وهو المادة الأولية في مصنع القناعات السياسية والفكرية.
بعد التطور الواسع في وسائل الاتصال وزيادة القدرة على استقطاب مجموعات كبيرة من الناس على صفحات أو قنوات .. إلخ، صار يمكن التدخل بفعالية في صناعة الواقع الخام التي صارت محط الرهان الأول الذي تعتمده السلطات النافذة للحفاظ على ذاتها. على سبيل المثال، يكفي في الغرب أن تضيف صرخة “الله أكبر” إلى أي هجوم أو اعتداء حتى تصنع معطيات خام تضعه في “حقيقة” جاهزة. وكان يمكن لأميركا أن تصنع قناعة خام بأن لدى العراق أسلحة دمار شامل حتى تبني على هذه القناعة حرباً واسعة. وكان يكفي لنظام الأسد أن يرمي المظاهرات في بداية الثورة السورية بعبارات مثل عصابات مسلحة وإمارات إسلامية حتى تُنتج مادة أولية لقناعات معادية للمظاهرات. يحتاج الأمر، بطبيعة الحال، إلى مستنداتٍ معينة، مهما تكن هزيلة أو مفتعلة. يقود هذا إلى بروز إمكانية تجاور وتزامن أكثر من “واقع خام” في حالة صراع على الغلبة.
لم يعد التنازع يدور، والحال هذه، على مستوى القناعات السياسية والانحيازات الفكرية فقط، أي لم يعد صراعاً في الأيديولوجيا السياسية وحسب، فقد بات الصراع الأهم يدور على صناعة الواقع الخام، أو على صناعة الواقع الأولي. بات الصراع التحرّري بالتالي صراعا ضد تزوير الواقع، إنه صراع على الواقع الخام قبل أن يكون ضد توجهات سياسية أو اقتصادية معينة، ذلك أن أصحاب التوجهات التسلطية باتوا يعملون على احتكار صناعة الواقع الخام بغرض قطع الموارد عن التوجهات الأخرى المضادة.
باتت هذه الحال ظاهرة مقلقة حتى في البلدان الديمقراطية، ولنا أن نتصوّر فاعليتها (نقصد فاعلية تشويه الواقع الخام) في بلدٍ محكوم لطغمة تسيطر على كل مقدّرات الدولة، وتمارس حرب حظر وإلغاء لكل اتجاه سياسي مخالف أو حتى مستقل، بصرف النظر عن لونه. في مثل هذه البلدان، يصبح الكلام عن صراع سياسي كلاماً في الفراغ، وتصبح معرفة الواقع مهمةً شبه مستحيلة. وإذا أتيحت هذه المعرفة، فإن النسخ المزيّفة من الواقع والمدعومة بوسائل إعلام قوية تعيق نشرها وتعميمها، أو على الأقل، تجعل قطاعا مهما من الناس في حيرة وشك، أمام واقعات متجاورة ومتزامنة.
يمكن القول إن الواقع السوري كان دائماً، وبشكل خاص بعد 2011، مزيجاً أو خليطاً من “واقعات” متزامنة ومتنافرة، تصنعها جهاتٌ متفاوتة القدرة على صناعة “الواقع الخام” المناسب لها ونشره. قد يصحّ هذا الوصف على الواقع في أي بلد آخر، ولكن “التميز” السوري الأول، ولا سيما بعد أن تحطّم إطار الدولة السورية كما تحطّم إطار المعارضة (إذا كان قد التأم لها إطار أصلاً)، يكمن في غياب مركز ثقل سوري، تبقى الواقعات مشدودة إليه، مهما تنافرت فيما بينها، فيمنعها، على تعدّدها، من التبعثر.
و”التميز” السوري الثاني الذي يمكن رصده أن صناعة “الواقع الخام” ليس فقط صنعة جهات ذات مصالح تصنع الواقع كما يناسب مصالحها، بل أيضاً صنعة أفراد وفرت لهم تقنيات التواصل الحديثة إمكانية استثمار مواهبهم التواصلية. وبدلاً من الأمانة والصدق المفترضين بمن يتناول الشأن العام، يساهم كثيرون من هؤلاء في تشويه الواقع أو اختلاقه، بشكل عبثي، ذلك أن مصلحتهم في تغذية حضورهم التواصلي كيفما كان، تغدو مع الفشل العام المتراكم، أهم من حرصهم على حقيقة ما يقولون.
راتب شعبو _ العربي الجديد