شعار أصحاب الثروة والسلطة الثابت: لا ترفع رأسك!

كانت القاعدة رقم واحد في سجن تدمر الصحراوي في «سوريا الأسد» هي طأطأة الرأس وإغماض العيون في حالة الصحو، وتطميش العيون في حالة النوم، تحت التهديد بالتعذيب الشديد لأي مخالفة. السبب السطحي الذي قد يخطر على البال لهذا التدبير هو منع رؤية السجناء للسجانين، حمايةً لهؤلاء من عواقب مستقبلية محتملة على الفظاعات التي يرتكبونها بحق السجناء. فبخلاف السجون العادية، كان سجانو هذا المعتقل الصحراوي، في غالبيتهم، من المجندين العاديين الذين يؤدون خدمتهم العسكرية الإلزامية، ليعودوا بعد انتهاء الخدمة إلى مدنهم وقراهم وأعمالهم المعتادة، وهم يتحدرون من مختلف المناطق السورية.
غير أن الغاية الحقيقية من طأطأة الرؤوس هي تحطيم كرامة السجين وتحويله إلى آلة خاضعة خانعة أو عبد منزوع من صفاته الإنسانية. هناك حالات ممن نقلوا، بعد سنوات أمضوها في هذا السجن الرهيب، إلى سجون أخرى عادية تمهيداً لإطلاق سراحهم. كان من المدهش رؤيتهم وهم يمشون في باحة السجن الجديد مطأطئي الرأس، على رغم عدم وجود قاعدة من هذا النوع في سجنهم الجديد. لقد انغرس فيهم هذا السلوك عميقاً وحافظ على ملازمتهم بعد زوال أسبابه.
بالمقابل لم يكن السجانون أيضاً بمنجى عن هذا المصير، وإن كان ذلك بطريقة معاكسة. فهم ممنوعون من حس التعاطف الإنساني، بعدما تم تحويلهم إلى وحوش أو آلات تعذيب محضة. إنها «دورة تدريبية» تستمر سنوات غير محددة بالنسبة للسجناء، وسنوات محددة قد تمتد إلى أربع بالنسبة للسجانين، يخرج بعدها الأخيرون إلى الحياة العادية لكنهم غالباً لن يعودوا بشراً طبيعيين. أما السجناء فقد يخرج بعض من محظوظيهم حطاماً بشرياً، ويموت بعض آخر داخل السجن تحت التعذيب أو بفعل الأمراض أو البرد والجوع.
يخضع الجنود في الجيش السوري لنظام مشابه من تحطيم الكرامة ونزع الإنسانية، وهو ما رأينا نتائجه الفعالة أثناء سنوات الثورة والحرب في العقد الممتد من 2011 إلى اليوم، حين انهمك جنود هذا الجيش في قتل الناس من غير أن يرف لهم جفن. يمكن القول بصورة عامة أن المجتمع السوري بكامله قد خضع لدورة تدريبية مشابهة من حيث المضمون في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، يمكن الحديث عن تفاصيل كثيرة لتأكيد هذا الحكم، لكن هذا يقع خارج موضوع هذه المقالة.
ما ذكّرني بما تقدّم هو فيلم «لا تنظر إلى الأعلى» (don’t look up) للمخرج الأمريكي آدم ماك كول الذي بدأ عرضه قبل أيام على منصة «نتفليكس». لا يتعلق موضوع الفيلم بسجن شبيه بسجون نظام الأسد، ولا بمعسكرات اعتقال نازية أو ما شابه ذلك من أوضاع. أكثر من ذلك: هو فيلم كوميدي ذو أسلوب رشيق يتحدث عن خطر وشيك يهدد الكرة الأرضية، ويرصد ردود أفعال الناس في مختلف مواقعهم في مواجهة هذا الخطر المنذر بالقضاء على الجنس البشري.

الغاية الحقيقية من طأطأة الرؤوس هي تحطيم كرامة السجين وتحويله إلى آلة خاضعة خانعة أو عبد منزوع من صفاته الإنسانية

يكتشف اثنان من علماء الفضاء في الولايات المتحدة نيزكاً ضخماً يتجه في مساره نحو الأرض، وتشير الحسابات التي يجريانها إلى أنه سوف يصطدم بها بعد ستة أشهر وبضعة أيام، وبسبب حجمه الكبير نسبياً وسرعته، سيقضي على كل مظاهر الحياة على الكوكب.
يقوم العالمان بإخبار الجهة العلمية ذات الصلة، وسرعان ما يتم ترتيب لقاء لهما مع أعلى سلطة سياسية في البلد، أي الرئاسة. بدءًا من هذه اللحظة نشاهد أحداثاً عجيبة لا يستوعبها العقل السليم. الرئيسة التي تلعب دورها ميريل ستريب تتعامل بخفة شديدة مع الخطر الوشيك، وتحسم أمرها بقرار التكتم على الخطر حفاظاً على شعبيتها. فيلجأ العالمان إلى الإعلام، ليواجههما هذا بخفة أكبر من خلال تحويل الخبر إلى فقرة ترفيهية في برنامج يحظى بجمهور كبير من المشاهدين. تمضي الشهور على هذا المنوال إلى أن يظهر المذنب في السماء فيراه الناس بالعين المجردة وهو يقترب من كوكبهم أكثر وأكثر كل يوم. فينقسم الناس إلى «حزبين» إذا صح التعبير: حزب «لا تنظر إلى الأعلى» وحزب «انظر إلى الأعلى» أو بعبارة أخرى: «حزب أخفض رأسك» و«حزب ارفع رأسك» في دلالة مزدوجة على التعامل مع الحقيقة والكرامة، فجماعة السلطة والثروة يريدون إخفاء الحقيقة عن الناس وإخضاعهم في الوقت نفسه. ليس المعنى المزدوج للعبارة هو السبب في هذه القراءة، بل أحداث الفيلم كلها، أي ردود أفعال الناس، هي التي تفرض هذه الدلالة المزدوجة.
يضاف إلى كل من السلطة السياسية الفاسدة والإعلام الفاسد، أرباب التكنولوجيا الحديثة الممثلة في الفيلم برئيس إحدى شركات التكنولوجيا العملاقة الذي يملك سلطة حاسمة على الرئيسة بفضل التبرعات الضخمة التي قدمها لها في حملتها الانتخابية، لتصبح دمية تأتمر بأوامره في قرارات تعني مصير الجنس البشري.
الفيلم كوميدي، وقد يصنف في فئة أفلام الخيال العلمي، لكن المفجع هو أن كل هذا اللامعقول الطاغي على الفيلم إنما يعكس حال عالمنا اليوم بواقعية شديدة. فلو أراد أحد وصف حال الدنيا في العقدين الماضيين من قرننا الحادي والعشرين، في عبارة موجزة، لصح له أن يقول: نحن نعيش في عالم بلا عقل وبلا ضمير وبلا وجهة مطمئنة.

بكر صدقي _ القدس العربي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...
Exit mobile version