أعادت خطبة الشيخ أسامة الرفاعي في اعزاز بريف حلب، الحديث عن وضع المرأة السورية إلى الواجهة، إذ ركز فيها على سردية تقليدية عن مخاطر انحراف النساء وضرورة الحفاظ على الأسرة، وأبرز مخاوفه من عمل المنظمات النسوية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهي منظمات ممولة أوروبيًا في الغالب، وتحمل “فكرًا تغريبيًا” بحسب المنافحين عن طروحات الرفاعي.
قد يرافق عمل المنظمات المذكورة مشكلات بنيوية أو فكرية (من حيث الواقعية أو التوطين)، لكن نقاشها لا يمكن أن يجري بأي حال من خلال القراءة التبسيطية للفكرة التي تحاول هذه التجمعات العمل لإنضاجها، وبمنطق يحمل موقفًا مسبقًا، نمطيًا ومصابًا بفوبيا “النسوية”، ومحمِّلًا الباحثين عن حلول لقضايا المرأة في المجتمع السوري توصيفات معلّبة، مستغلًا الجهل المحيط بالتيارات النسوية، وفكرها وتصنيفها، ومستسهلًا الربط الساذج بين أي تحرك نسوي وبين عدد من تيارات النسوية الراديكالية التي ذهبت بعيدًا في التمركز حول الأنثى ونفي اختلافها، والقطيعة مع الرجل والأسرة والمحيط الاجتماعي، والمطالبة بتغيير سياقات التاريخ والرموز وحتى اللغة.
لا يمكن تلخيص شروحات مئات المؤلفات حول النسوية في مقال، لكن يمكن جمع عدد من الالتقاطات لتوضيح الفكرة، كالتذكير بأن هناك نسوية عالم ثالثية تنتقد تيارات نسوية غربية وتَصِمُها بأنها من منتجات المرأة البيضاء من الطبقة الوسطى، وترى أن مسافة بعيدة تفصل هموم النسوية في بلادنا عن النسويات الغربيات، قد يساهم في ذلك اختلاف التجربة وعمرها والأنظمة السياسية والقانونية الحاكمة وفي جزء من مكامن الاختلاف: المنظومة الدينية المسيطرة.. ما يعني أن هناك أصواتًا نسائية في المنطقة، تعي خصوصية المجتمع وتبتعد عن الاستيراد الجاهز للأفكار الغربية، وتفهم السياقات التي يمكن البدء منها وتطبيقها.
أبرز ملامح القطيعة بين النسويتين الإسلامية والعلمانية هو الحجاب، بوصفه واحدًا من تجليات اضطهاد المرأة وعزلها، وخضوعها “للسلطة الأبوية التي يكرسها الإسلام”، من وجهة نظر نسوية علمانية.انطلاقًا من هنا يمكن الحديث عن أي جهد توفيقي جرى العمل عليه بين الإسلام، ومنطلقات النسوية الغربية من حيث أنها في البدء حركة لتحرر المرأة والحصول على حقوقها، أو ما يسمى “النسوية الإسلامية”، ورغم حداثة تداول هذا المصطلح في الأوساط السورية (لظروف موضوعية تتعلق بنمط السلطة الحاكمة في سوريا واحتكارها العمل المدني واقتصار الجهود النسوية على الفردية) فإننا نتحدث عن عقود من العمل على النسوية الإسلامية عمومًا ووجود رائدات لها.. يختلف التصنيف وينتفي في أحيان كثيرة، لكن جوهر الأمر، كيف يمكن إعادة قراءة المرأة في الإسلام، وتحسين وضعها المجحف بتأثير تفسير النص، وسياقات المجتمعات الذكورية؟
يقع هذا النوع من النشاط تحت ثقل رفض مزدوج، الأول من النسوية العلمانية التي ترى أنه لا يمكن التوفيق بين الفكر النسوي والإسلام، وأن تطبيع “الديني” مع الديمقراطية ضرب من الخيال، وأن أي محاولة نسوية في الإسلام تبرر السلطة البطريركية، والثاني من التيارات الإسلامية نفسها التي لا ترى في النسوية إلا مسًا شيطانياً وشرًا مطلقًا مدمرًا للقيم وداعيًا للرذيلة ومتمحورًا حول أطماع الأنثى وغرائزها، ويذهب الغلاة إلى نعتها بالنسوية “المتأسلمة” تأكيدًا على أن أنه لا يمكن “ليّ عنق المفهوم الإسلامي عن المرأة والدور الاجتماعي” ليتناسب مع الفكر النسوي.
وتختلف محاولات النسوية الإسلامية بين التبريرية، التي تسعى لعدم تجاوز النص الديني أو التعديل في الحكم المعروف، بل تجد له تبريرًا منطلقًا من التسليم بتكريم الإسلام للمرأة والبحث عن مكامن الوضع المثالي الموهوم.. وبين محاولات جريئة، بدأت تبحث في القراءة الجديدة للنص واستنباط أحكام أكثر عدلاً وإمكانية للتطبيق في سياق المجتمعات الحديثة والأوضاع الجديدة للمرأة فيها واختلاف أدوارها الاجتماعية، وذهبت في بعض الأوقات أبعد من ذلك، داعية إلى استبعاد نصوص من السنة لا يمكن أن تتوافق مع روح النص القرآني، وجوهر التكليف والاستخلاف الذي تتساوى فيه المرأة المسلمة مع الرجل، ونَحَت أيضًا نحو قراءة “مجندرة” للنص الديني.
الحجاب.. الحرز المقدس
أبرز ملامح القطيعة بين النسويتين الإسلامية والعلمانية هو الحجاب، بوصفه واحدًا من تجليات اضطهاد المرأة وعزلها، وخضوعها “للسلطة الأبوية التي يكرسها الإسلام”، من وجهة نظر نسوية علمانية.. قد لا تكون هذه القطيعة من قبل التيارات جميعها، فهناك ميل نحو التنوع والاحتواء واعتبار النسوية “ثورة عابرة للثقافات”.. ورغم ذلك فإنها ملاحظة بدرجات متفاوتة.على الجانب الآخر، يمثل الحجاب حرزًا للمرأة المسلمة، مضافًا إليه صفة القداسة، مربوطًا بالطهرانية والعفة، ومعلِنًا مطابقة مرتديته لشروط الانتماء والتسليم بمنظومة دينية/ قيمية متكاملة.وبوصفه ظاهرًا، لا يمكن للطرف المقابل للمرأة المحجبة تقديم الحياد في حوارها أو تلقي أفكارها، وهنا تقع المحجبة فريسة التصنيفات من كل الأطراف، والتعامل معها وفق الصورة النمطية التي تفرزها إيديولوجيا المتلقي لها وتوقعاته المسبقة.
هذه التوقعات حوّلت أي مطالبة للمرأة المحجبة بإنصافها في إطار “الشريعة”، مثارًا لحرب ضدها من أنصار الشريعة أنفسهم.في الدراسات الإعلامية، تَنتُجُ أفضل أنواع التلقي لدى الجمهور من المصدر الذي يشبههم، لذلك تميل وسائل الإعلام إلى إظهار التنوع على شاشاتها، دينيًا وعرقيًا، حتى إن كبريات الشاشات تبرز ذوي الاحتياجات الخاصة كمقدمين في سبيل تعزيز ثقافة الاختلاف، واستقطاب الجميع للمشاهدة.لا أعتقد أن الناشطات في مجال حقوق المرأة، والإصلاح الديني، مهتمات بنوع التسمية، وبالمظهر البراق الذي يمنحه وصف النسوية أمام المنظمات الغربية، أكثر من محتوى التغيير نفسه.
من المبدأ نفسه، يرى المسلمون المنغلقون، المحجبة ذات الميول النسوية، المطالِبة بتجديد قراءة النصوص وإعادة النظر في التفاسير.. الداعية إلى التنوير والمحارِبة للظلم والظلامية.. تهديدًا لسلطتهم الذكورية التي يخالونها مستمدة من النص المقدس.. يخشى فجأة من أن هذه المرأة تشبه في مظهرها زوجته وابنته.. تشبهه! ويهيَّأ إليه بأن الثورة قريبة من عقر داره.. فتبدأ ميكانيزمات الدفاع لاستبعاد التشابه ونفيه، وهنا يظهر اتهامان جاهزان: الأول، النسوية بمفهومها المشوّه والمحدود والمختزل، والثاني، أن هذه امرأة تمهد للمحيط أنها تريد خلع الحجاب.. الاتهام الثاني يُخرج المحجبة مباشرة من المنظومة القيمية المغلقة، وينفي عنها صفة التشابه، ويرميها إلى الضفة الأخرى حيث النسويات اللواتي لا “تشبهننا”، ويصير النقاش صفريًا، والمطالب زندقة وخروج من الملة.
لعنة التصنيف
لا أعتقد أن الناشطات في مجال حقوق المرأة، والإصلاح الديني، مهتمات بنوع التسمية، وبالمظهر البراق الذي يمنحه وصف النسوية أمام المنظمات الغربية، أكثر من محتوى التغيير نفسه، فسواء حُسبت هذه الجهود على النسوية أو وُطنت بتسميات محلية، يبقى الهدف واحدًا: رفع الاضطهاد الذي تعانيه المرأة، نتيجة الحمولة الاجتماعية، والإسقاطات الدينية.يذهب د. عبد الوهاب المسيري في إطار حديثه عن النسوية باعتبارها “تمركزًا حول الأنثى” إلى تقديم البديل عن ثورة حقوق المرأة برأيه، وهو حقوق الأسرة، حيث يمكن إعادة الحديث عن الدور الاجتماعي المفقود للرجل ضمن الأسرة ومع أطفاله، والحصول على حقوق المرأة باعتبارها أمًا وزوجة بالدرجة الأولى، من دون إغفال حقها في المجال العام، وتقع هذه الفكرة في موضع الاستحسان لدى فئات كبيرة من المسلمين، بما يمكنهم من جذبها نحو ميولهم وتصغير مساحتها أو تفصيلها على قياسهم.
وفق معطيات الواقع، والأدوار الاجتماعية التي فرضت على المرأة بشكل عام وعلى السوريات خصوصيًا، وبالنظر إلى وضع الأسرة السورية وشتاتها وهجرتها إلى الغرب، يمكن الاختلاف مع الفكرة التي قدم لها المسيري، إذ لم يعد واردًا الحديث عن المرأة إلا بوصفها كيانًا فرديًا، لا يصلح أن يكون عضوًا في أسرة ومربيًا لأجيال ما لم ينعتق من آفات الظلم التي تحيط به، لذلك فإن حقوق الأسرة تأتي في درجة ثانية بعد تثبيت حقوق أفرادها وواجباتهم، شرعيًا واجتماعيًا وقانونيًا، وإن لم يتحقق ذلك كنتاج لمفاعيل الثقافة الذاتية وتطورها، سيفرض بقوة القانون في دول اللجوء، ويتحول إلى تفكيك قسري وانزياح لأجيال بكاملها بعيدًا عن أصولهم السورية المسلمة، وسيتجلى بمزيد من التشظي للمجتمع الأصلي -في الداخل- حيث اتضح أن التماسك الظاهري لم يكن سوى عرض جانبي للاستبداد وغياب الدولة وضياع الذات السورية.
يمكن أخيرًا أن نفتح المجال للسؤال: ما هي الأسرة في الإسلام؟ أين وردت في النص الديني؟ وأين أنكر الإسلام مصلحية الإنسان وغرائزه؟ ألم يكن التشريع كله من أجل ترويض المصلحة الفردية والغريزة في السياق الاجتماعي العام؟
والسؤال الأهم: هل تنبه المقاومون للتغيير أن نموذج الأسرة “المثالية” المؤبدة، التي يكونها زوجان في العشرينيات من العمر وتستمر مع أطفالهم، بدأ يصبح من الماضي لتحل محله نماذج أكثر تعقيدًا تحتاج بدورها إلى سياقات وأحكام جديدة؟هناك أسئلة كثيرة لا تجد إجاباتها لا في أدبيات الجزء النسوي المدمر لخيوط اللقاء مع الرجل، ولا في التفسيرات الدينية السائدة، فتترك الأنثى كجندي احتياط، يُستدعى عند حروب التصنيفات وصراع الإيديولوجيا.
نور الهدى مراد _ تلفزيون سوريا