في نهاية ستينات القرن الماضي، لم يكن آلان غرينسبان، يثق بالتنبؤات الاقتصادية الكلية. وفي استطلاع للرأي أُجري للجمهور الأمريكي، مطلع سبعينات القرن الماضي، وضع الأمريكيون قدرة الخبراء الاقتصاديين على التنبؤ، على قدم المساواة، مع قدرة المنجمين. حينها، تساءل غرينسبان عن الخطأ الذي وقع فيه المنجمون.
بطبيعة الحال، تغير الكثير من قناعات الاقتصادي الأمريكي المخضرم، خلال السنوات التالية، لذلك التاريخ. فـ غرينسبان -الذي سيصبح منذ العام 1987، رئيساً لمجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي، لقرابة العقدين من الزمن- ساهم شخصياً، بتطوير نماذج التنبؤ الاقتصادي، بصورة نوعية. لكن حتى اليوم، يشكك الكثيرون في قدرة الاقتصاديين على التنبؤ على المستوى الكلي للاقتصاد في بلدٍ ما، أو على مستوى الاقتصاد العالمي. وقد أثبتت خضّات كبرى للاقتصاد، من قبيل الأزمة المالية عام 2008، محدودية قدرة رجال الاقتصاد على التنبؤ الجازم بالمسار الذي سيتخذه الاقتصاد مستقبلاً، في كل مرة.
في الحالة السورية، قد لا يحتاج الأمر لاقتصاديين. فحتى المنجمون، إن كانوا حياديين ويحترمون سمعتهم (ليس من طينة مايك فغالي مثلاً)، فهم قادرون على التنبؤ بالمسار الذي سيتخذه الاقتصاد السوري في العام 2022. إذ يكفي رصد ما أصاب معيشة السوريين خلال الأشهر الـ 18 الأخيرة، لرسم تصور واضح، لما ينتظر تلك المعيشة، في قادم الأيام. فسياسات نظام الأسد، وردود أفعاله على التحديات بمختلف ألوانها، متوقعة. خاصة لو كانت تلك التحديات، في أدنى قائمة أولوياته، من قبيل حياة السوريين المعيشية.
وبهذا الصدد، يمكن الاستفادة من الدراسة الجديدة الصادمة، التي نشرتها صحيفة “قاسيون”، التي تصدر عن حزب “قدري جميل” -الاقتصادي السوري المقرّب من موسكو، والقابع في منفاه الروسي منذ خريف العام 2013، حينما أقصاه رأس النظام من منصبه كنائب لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، بذريعة “التغيب عن مقر عمله”، والقيام باتصالات خارجية من دون تنسيق مع حكومة النظام-.
فالصحيفة تقول إنه مع انقضاء العام 2021، وصل وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد إلى أكثر من 2 مليون ليرة سورية. فيما الحد الأدنى لراتب الموظف، بعد الزيادة الأخيرة للأجور التي أصدرها رأس النظام منتصف الشهر الجاري، أقل من 100 ألف ليرة سورية.
لكن أخطر ما تحتويه تلك الدراسة، هو نسب التضخم. فوسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية، ارتفع خلال الربع الأخير فقط من العام الجاري، بنسبة 8.2%. يأتي ذلك كنتيجة لقرارات رفع الدعم الأخيرة، التي صدرت خلال الشهر المنصرم، والتي طاولت أسعار أبرز حوامل الطاقة.
وبالمقارنة مع وسطي تكاليف المعيشة في كانون الأول/ديسمبر 2021، يشكل الحد الأدنى للأجور (92970 ليرة سورية)، ما نسبته 4.5% فقط. وهو لا يغطي كلفة الغذاء الشهرية للموظف نفسه. فوفق الدراسة، كلفة الحد الأدنى لغذاء الفرد الواحد 152024 ليرة سورية.
وتظهر نسب مرعبة أكثر لقياس التضخم، إن تناولنا فترة زمنية أبعد. إذ ارتفع وسطي تكاليف المعيشة بسوريا، بين حزيران/يونيو 2020، وكانون الأول/ديسمبر 2021، من 665 ألف ليرة سورية، إلى 2.026 مليون ليرة سورية. أي أن التضخم ارتفع في سوريا، بنسبة تتجاوز الـ 200%، خلال 18 شهراً. (ننوه هنا، إلى أننا ندرك بطبيعة الحال، الفارق بين وسطي تكاليف المعيشة، والتضخم، كمعيارين اقتصاديين. لكن مع عدم الثقة بالأرقام الرسمية، وغياب أرقام دولية حديثة ترصد معدل التضخم بسوريا، نرى إمكانية الاستناد إلى وسطي تكاليف المعيشة بوصفه أقرب معيار لتصور معدل التضخم).
ما سبق يعني أن مؤشر البؤس الاقتصادي، المتعارف عليه عالمياً، والذي يمثل حاصل جمع معدل التضخم مع معدل البطالة، (في أبسط صوره)، سيسجل أرقاماً خُرافية، في الحالة السورية، تتفوق على دول إفريقية فقيرة، من قبيل زيمبابوي. فإذا أخذنا أكثر النسب الدولية المتداولة تفاؤلاً حيال معدل البطالة بسوريا، والتي تشير إلى 55% (هناك مؤشرات أخرى تتحدث عن 78%)، فهذا يعني أن مؤشر البؤس بسوريا، يتجاوز 255 نقطة. وبالمقارنة مع تركيا، التي أثير الكثير من الضجيج الإعلامي الإقليمي والدولي، حول ارتقائها مرتبات متقدمة في مؤشر البؤس الاقتصادي، في آب/أغسطس المنصرم، عند 32.2 نقطة، تبدو الحالة السورية، مُريعة.
بطبيعة الحال، سيضحك معظم موظفي القطاع العام الذين يتجاوزون الـ 2 مليون نسمة، حينما نشير إلى الحد الأدنى للرواتب. فالنظام -كما أشار تحليل موفّق لمركز جسور للدراسات، قبل أيام- يراهن على توفير مصدر دخل آمن، لتلك الشريحة التي تغطي عدداً كبيراً من سكان المناطق الخاضعة لسيطرته (إن احتسبنا عائلات موظفي القطاع العام). فيما يمكن للموظف توفير باقي الحد الأدنى من حاجاته، من خلال قنوات الرشوة والفساد، التي يتيحها النظام له، بكل أريحية. أو إن كان “موظفاً شريفاً” -من تلك العينة المعرّضة للانقراض- فيمكن له الرهان على عمل إضافي، وعلى راتب زوجته الموظفة أيضاً، على الأغلب.
وقد يجاهر أحد مسؤولي النظام، بمناسبة انقضاء عام جديد، بما يعتبره منظّروه نجاحاً منقطع النظير. إذ استطاع مصرف سورية المركزي لجم انهيار الليرة السورية، والذي كاد يأخذ منحى السقوط الحرّ ربيع العام الجاري. ورغم هذا التفاخر، فحصيلة جهود مكثّفة وشبه يومية، من التدخل الأمني والتقييدي، لسوق الصرف، على مدار عام، انتهت بهبوط سعر صرف الليرة السورية، من 2870 مقابل الدولار عشية العام 2021، إلى 3558 مقابل الدولار عشية العام 2022. أي أنه في الحصيلة النهائية لعامٍ كاملٍ، فقدت الليرة السورية، حوالي 24% من قيمتها.
وكانت الضريبة الباهظة، لـ “نجاح” لجم انهيار الليرة، ذاك، هو اعتماد سياسة “تجفيفها” من الأسواق، بغية رفع الطلب عليها، من خلال سلسلة قرارات وإجراءات، أدت وفق اقتصاديين موالين، إلى حالة ركود ملحوظ في الحركة الاقتصادية.
السياسات المفصّلة أعلاه، يقدمها النظام، إما بوصفها ضرورة لا مفرّ منها (في حالة رفع الدعم)، أو بوصفها نجاحاً (في حالة تجفيف الليرة من الأسواق). لذا، فإنها ستكون الإطار الذي سيحكم تطورات الوضع المعيشي للسوريين خلال العام 2022، أيضاً. ويبقى السؤال: إن كانت تلك السياسات أدت إلى تفوق سوريا على زيمبابوي في مؤشر البؤس الاقتصادي بنسبة 255%، وفق أرقام آخر 18 شهراً. فبأي نسبة سيزداد بؤس السوريين خلال العام 2022؟
إياد الجعفري _ المدن