لم تعد المشكلة أن الثورة السورية لم تصل إلى أهدافها بعد، فلهذا ألف سبب وسبب يمكن تدبيجه ومناقشته والمحاججة فيه، وهذا الأمر لا ينتقص من حقيقة سمو أهداف الثورة بغض النظر عما شابها من انحرافات رسمت مساراتها في الغرف السوداء، وامتطى صهوتها غير أكفياء مرة باسم الوطن ومرات باسم الله.
في ميزان الربح والخسارة، يبقى من ضحى بنفسه في سبيل بلده، وفق قناعته وإيمانه، رابحا بالمعنى العقدي والديني، وحتى بالمعنى المادي فالخسارة في سبيل إعادة بناء بلد وإن كان الحصاد سيأتي بعد جيل أو اثنين هو ربح مؤجل، لكن ما يمكن وصفه بالمصيبة هو أن يتشظى البلد بالمعنى المجتمعي والسلوكي ويصل إلى ماذهب إليه ابن خلدون في مقدمته من قول بات معروف للجميع ولكن لا ضير من التذكير ببعض يسير منه: “تزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا، والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء، والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعماله والخيانة،..، ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته، ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوضع إلى مشروعات مهاجرين.. ويتحول الوطن الى محطة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب.. والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات”.
في حوران، التي كانت مضرب مثل في التماسك والتضامن الاجتماعي، بالمعنى المجتمعي وليس المعنى العشائري كما يعتقد كثر، لم تعد كذلك بحسب ما يرد من أخبار، فالموت بلا هيبة ولا هدف والرجل ثمنه رصاصة ربما سعرها أرخص من ثمن كيلو بصل، كما ينقل صديق، وكل هذا في سياق تصفية حسابات وانتقامات ناهيك عن خلايا لم تعد نائمة بل تمارس القتل بأبشع صوره، وهل أبشع من القتل باسم الله؟
هي الخلايا نفسها التي وزعت الموت، اغتيالا على عموم حوران، وهربت عندما جاءت ساعة الحقيقة، ساعة اجتياح النظام لحوران.. خلايا سكت عنها كثر، بل منهم من ذهب إلى وصفهم بـ”أسود الاقتحامات” وكتبوا الشعر في بطولاتهم.. من سكت عن تلك الأفعال ودافع عنها، هو من يتحمل الوزر الأكبر من الدماء، وليس شاب وجد في ثوب الدين المسلح ملاذا لفشله ومكانة ما كان له أن يصلها، مثلما لا يتحمل الوزر طفل كان ابن عشرة أعوام عندما بدأت الثورة، ووصل العشرين وليس لديه جملة مقارنة بين ما فتح عليه عينه من مجتمع مدجج بالسلاح والسواد، وبين مجتمع كان يحمل بين طياته مفاهيم الاحترام لعادات الناس وأعرافهم ودينهم أيضا.. للحشيش المنتشر في حوران وغيرها بكثرة قصة لا يكاد المرء يصدقها عندما يتحدث عنها منهم في الداخل عنها، قصة لا النظام ولا حزب الله وخلاياه براء منها، ولكن أين هم عنها من ينفذون الاغتيالات بحق شاب، على سبيل المثال وما أكثر الأمثلة، كتب منشور فيسبوك فأقاموا عليه حدودهم المرضية، بينما هرب أسيادهم إلى أوروبا بأسماء جديدة ووجوه جديدة.. ربما لم يعد الأمل باسقاط النظام، فهذا أمر بات السوري فيه مجرد ورقة، ولكن على الأقل المحافظة على بعض ما تبقى من بنى مجتمعية لديها من القوة الناعمة ما يفوق قوة السلاح.. أو هكذا أفترض.