عانت المرأة العربية من النظرة المجتمعية لها، التي وضعتها في مكانة متدنية أمام الرجل، وتجذرت تلك النظرة الدونية وازداد معها حجم معاناة المرأة التي اختُصر وجودها على جسدٍ مجردٍ من أي اعتبارات إنسانية، فهي تابع وظل للرجل، لا بل خلقت لخدمته وتلبية رغباته فقط لا غير، فهي الحلقة الأضعف والجدار المائل المهيأ للسقوط أمام جبروت الرجل الذي يمتلك زمام أمرها وله حق الحل والربط بأدق تفاصيل حياتها.
لذلك حُرمتْ المرأة من حقوقها وقُيدت بسلاسل العادات والتقاليد لتقع ضحية الإقصاء والتهميش والحرمان من العلم والعمل المناسب ومن حق اختيار الزوج، ومن الزواج القسري والحمل القسري ومن التعدد، حُرمت أيضاً من الإرث، وقائمة تطول من الممنوعات التي حُظرت على المرأة فقط لكونها امرأة.
لم تقف انتهاكات حقوقها والاعتداء على إنسانيتها عند هذا الحد بل وصلت إلى أحقية الرجل بإنهاء حياتها، إن لم يكن بشكل قانوني، فهو مكفول بشكل عرفي من خلال المجتمعات المحكومة بالأعراف والتقاليد، فعلى الرغم من القوانين التي سُنت لضمان حرية وحياة الأفراد، إلا أنها تبقى مجرد قوانين مكتوبة محفوظة بسجلات غير قابلة للتطبيق في حال كانت الضحية أنثى، فقانون المجتمع والقوة هو الساري، وهو الذي يحول القاتلَ إلى بطلٍ تُطلق له الزغاريد وتفتح المضافات لتهنئته على رجولته وشجاعته، كما يحدث في جرائم الشرف أو ما تسمى غسل العار، التي تُصور وتُبث ممجدةً القاتل البطل الذي غسل عاره بدماء من أهدرت ذلك الشرف، حتى لو كانت الجريمة شبهة، ولازالت ذكرى “زهرة سوريا” زهرة العزو حية في ذاكرة المهتمين والتي كانت شرارة انطلاق اليوم العالمي للتضامن مع ضحايا قضايا الشرف.
ويستمر مسلسل قتل النساء بعروضه الوحشية في مجتمعاتنا العربية وسط غضبٍ واستنكار يشوبهما أصواتُ نشاز تنادي بتبرير جرم القتل إن كان بدعوى الشرف أو لدوافع عاطفية.
لتقتل الضحية مرة بسكين قاتلها ومرات بتعليقات جمهور المؤيدين التي تنم عن عمق الشرخ الذي حاولت النساء على مر العصور ردمه، وإيصال المرأة إلى ضفة الأمان من خلال انتزاع حقوقها كاملة غير منقوصة ومساواتها إنسانياً بالرجل.
ذلك الرجل الذي تلجأ إليه المرأة ليكون الحامي ومصدر الأمان، فإذا هو القاتل الذي اعتبرها ملكية حصرية، له الحق بقبض روحها بحجة الحب الجنوني الذي كان دافع قتل الطالبة نيرة أشرف.
بالأمس القريب، ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي والمحطات العربية بصور ضحايا لشابات عربيات قتلن بشكل انتقامي إما لرفضهن الارتباط بالقاتل أو على يد الشريك.
ابتدأ الأسبوع الدامي على يد القاتل محمد عادل الذي ذبح زميلته نيرة أشرف أمام أبواب جامعتها في مدينة المنصورة في مصر بعد رفضها له.
ليقتدي به قاتل إيمان الرشيد ويقتحم حرم جامعتها مسدداً إليها خمس طلقات أصابت إحداها الرأس لتفارق الحياة.
وتليها جريمة قتل الشابة لبنى منصور على يد زوجها الذي اختار أن ينهي حياتها طعناً بسبب طلبها الانفصال عنه، جزاء قرارها الذي أهان كرامته.
ويختتم جرائم الأسبوع (القاضي) أيمن حجاج بقتل زوجته الإعلامية شيماء جمال التي عُثِرَ على جثتها في مزرعة تابعة لمحافظة الجيزة بعد عشرين يوم من الاختفاء.
في خضم تلك الأحداث التي تدمي الروح قبل الجسد لما آلت إليه إنسانيتنا، والوضع المزري الذي انحدرت إليه مجتمعاتنا، من غياب منظومة القيم الإنسانية وتفشي مظاهر الانحلال الأخلاقي، ينقسم الشارع العربي كالعادة بين مستنكر لتلك الجرائم مديناً لها مطالباً بإنزال أقسى العقوبات على مرتكبيها، وبين من يقدم لهم المسوغ والدافع، إن لم يرتدي ثوب محامي الدفاع عنهم، وذلك من باب أن الضحية كانت المسبب في تلك الجرائم، لأسباب عاطفية أو بسبب المظهر غير الشرعي الذي كان سبب إغواء قاتل نيرة، وهو السبب الذي تبناه من يطلقون على أنفسهم دعاة ورجال دين، داعين الفتيات إلى التزام اللباس الشرعي درءاً للفتنة وليأمن على حيواتهن، وكأن الشارع والجامعة هو المكان الطبيعي لارتكاب الجرائم في مجتمع بات أشبه بغابة، وبدل أن يدين رجل الدين سلوك الجاني ينتقد الضحية ويلقي عليها اللوم كونها سبب انحراف الشباب.
ويأتي قتل الطالبة إيمان التي لم يشفع لها حجابها عند قاتلها لتلحق بنيرة وتدحض حجج مشايخ الفتنة.
أسبوع مرعب أعاد لنا صور فتيات عربيات بعمر الورود قضين بيد أقرب المقربين ذبحاً وطعناً وخنقاً.
للأسف تلك الجرائم ليست جديدة على مجتمعاتنا التي تختصر مبادئ الشرف والقدسية بجسد المرأة، وإنما قديمة قدم الهوة التي افتُعِلت بين إنسانية الرجل وإنسانية المرأة، التي ساهمت الأعراف والعادات والتقاليد والفهم الخاطئ للدين بتكريسها وزيادة عمقها.
بالإضافة إلى الخلل الأخلاقي والترهل الفكري الذي أصاب بنية المجتمع الذي يعاني أفراده على حد سواء، ولسنا هنا بوارد التعاطف مع القاتل وإنما تسليط الضوء على الأخطاء التي أنتجت جيلاً يستسهل القتل ويعتبره حلاً لمشاكله، ويستخف بحياة الآخر وذلك بسبب التربية الذكورية التي تبيح له امتطاء أعلى أمواج الحرية وتعطيه الحق بامتلاك ما تشتهي نفسه مع عدم احترامه حرية الآخر بالقبول والرفض، وإلا فالقوة العضلية التي تميزه هي الحل والمخدرات المتاحة له تمده بالجرأة إن لزم الأمر.
وبالنهاية مجتمع بعادات وتقاليد بالية وفهم خاطئ متطرف للدين مع قوانين رخوة قادرة على حمايته.
لذلك بات الوضع ملزماً لاتخاذ إجراءات حاسمة على الأصعدة كافة، القانونية، الاجتماعية والدينية. فلا بد من:
- سن قوانين رادعة قابلة للتطبيق بحيث لا تصطدم بحواجز العرف والمزاج السائد، قوانين تجرم تعنيف وقتل النساء.
- تفعيل دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات النسوية على تمكين وتوعية النساء بحقوقهن وتوجيه الخطاب للرجال قبل النساء والتركيز على الأوساط المهمشة.
- العمل على التثقيف والتوعية الأسرية لتفعيل المساواة بين أفراد الأسرة الواحدة.
- نبذ الخطاب الديني المتزمت والتركيز على خطاب موجه لنبذ العنف عموماً والعنف القائم على النساء خصوصاً.
- الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي والحد من نشر ثقافة العنف بكل أشكاله.
ندى أبو خضر _ نينار برس