في كل فترة تجدد بلدان غربية دعوتها لإحالة الوضع في سوريا إلى “المحكمة الجنائية الدولية”، في الوقت الذي تزداد فيه حدة انتهاكات حقوق الإنسان والقضايا المعقدة الناشئة عن تلك الانتهاكات.
ومنذ 2015 بدأت تحركات حقوقية فردية عدة محاولة إيجاد مخرج يُمكّن “الجنائية الدولية” من امتلاك ولاية تُلاحق من خلالها وتُحاسب مرتكبي “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” في سوريا، أيًا كان طرف النزاع الذي ينتمون له.
اقرأ أيضًا: ما الفرق بين “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” و”جرائم الإبادة الجماعية”
تمثّل “الجنائية الدولية” الأداة الأكثر فاعلية لمساءلة مرتكبي الانتهاكات الحقوقية في سوريا، ونظرًا إلى أن سوريا ليست دولة طرفًا في المحكمة لعدم تصديقها على نظامها (نظام روما الأساسي لعام 1998، دخل حيز التنفيذ عام 2002)، فإن تفعيل ولاية المحكمة في هذه الحالة مرتبط أيضًا بقرار يتخذه مجلس الأمن.
ولجأ النظام السوري إلى استخدام القوة المفرطة لقمع المظاهرات في البلد، وتفاقمت الجرائم ضد الإنسانية جراء ازدياد حدة العنف والنزاع المسلح، واتساع نطاقه، وتحوّل الوضع في سوريا بداية عام 2012 من ثورة احتجاجية إلى نزاع مسلح غير دولي.
تمثّل سوريا حالة خاصة من النزاعات المسلحة بحكم شدة النزاع المسلح وما يُلحقه من معاناة بالسوريين من جراء قسوة الأطراف المتنازعة وهمجية أفعالهم، وهذه الحالة تستدعي من صنّاع القرار الفاعلين بالملف السوري جميعهم تطبيق قرار إحالة الوضع في سوريا إلى “الجنائية الدولية”.
في حال لم تقبل حكومة النظام السوري ولاية المحكمة للنظر في الجرائم التي ارتكبتها خلال العقد الأخير طوعًا، ستضطر المدعية العامة في هذه المحكمة إلى إحالة الوضع في سوريا إليها من قبل مجلس الأمن، حتى تفتح تحقيقًا هناك.
في 2014، استخدمت روسيا والصين حق “الفيتو” اعتراضًا على قرار لمجلس الأمن كان من شأنه منح المدعية هذه الولاية، الأمر الذي حال دون القيام بأي خطوات على طريق ضمان المحاسبة الحقيقية لحكومة النظام، في سوريا أو خارجها، ما أسهم في وقوع مزيد من الانتهاكات.
المحكمة الجنائية الدولية هي أول هيئة قضائية مستقلة أُسست عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي، وتعد أول محكمة قادرة على محاكمة أفراد ضالعين بجرائم ضد الإنسانية، ويصل عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة إلى 121 دولة حتى عام 2012، وتواجه انتقادات حادة من كبرى دول العالم، من بينها الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند، التي رفضت التوقيع على نظام المحكمة، أو انسحبت منه لاحقًا. |
هل يمكن تجنب “الفيتو” الروسي؟
بما أن سوريا ليست طرفًا في “نظام روما الأساسي“، لا تملك المحكمة “الجنائية الدولية” صلاحيات النظر بجرائم وانتهاكات ارتُكبت داخل الأراضي السورية، ما أدى إلى إفلات الكثير من الأفراد وأطراف النزاع من العقاب، ودفع بعض المراكز الحقوقية إلى المطالبة بالنظر في انتهاكات طالت سوريين في دول تعتبر طرفًا في نظام روما.
الحقوقي السوري والموثّق المختص بانتهاكات حقوق الإنسان ضمن نطاق القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان حسام القطلبي، يرى أنه “لا يوجد أي فرصة” بتجنب “الفيتو” الروسي لإحالة الوضع في سوريا إلى “الجنائية الدولية”.
وأوضح القطلبي، في حديث إلى عنب بلدي، أن “تحويل الملف إلى (الجنائية الدولية) هو من خلال طريقين لا ثالث لهما، إما بقرار مجلس الأمن، وإما أن تكون سوريا عضوًا بمعاهدة روما المنشأة للمحكمة، خارج هاتين الحالتين لا يوجد أي ولاية قضائية للمحكمة على سوريا”.
في 30 من أيلول 2025، بدأ سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية، وهذا بعد أن طلب رئيس النظام السوري، بشار الأسد، دعمًا عسكريًا من موسكو لمواجهة قوات المعارضة المسلحة في أثناء النزاع، ووافق مجلس الاتحاد الروسي على تفويض الرئيس، فلاديمير بوتين، استخدام القوات المسلحة الروسية خارج البلاد.
وبهذا القرار صارت روسيا موجودة عسكريًا في سوريا، وبذلك اعتبر القطلبي أن “إحالة الملف لـ(الجنائية الدولية) يعني التحقيق المباشر بجرائم ارتكبتها هي أيضًا داخل البلد. الفيتو الروسي قائم ومن غير الواقعي التفكير بعدم اعتراض روسيا” أو تجنبه.
اقرأ أيضًا: تصنيفات ضمن ضوابط دولية للنزاعات المسلحة.. ماذا عن سوريا
ما الحل؟
“الفيتو الروسي صار حماية لروسيا نفسها أكثر من مجرد حماية للأسد”، وفق ما يراه الحقوقي، والمَخرج لهذه المشكلة هو إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بسوريا.
تعد المحاكم الجنائية الدولية الخاصة إحدى الأدوات الفاعلة لمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة.
وظهر هذا النوع من المحاكم الدولية للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، مثل محكمة “نورنبورغ” لمحاكمة النازيين.
اقرأ أيضًا: التقاضي الاستراتيجي.. كيف تتحول القضية الخاسرة إلى نجاح
لكن بهذه الحالة تستطيع روسيا أن تحدد ولاية المحكمة الخاصة القضائية، بحيث تُبعد أي مساءلة قد تقترب من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها موسكو في سوريا، وفق ما أشار إليه القطلبي.
ويعطي ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي صلاحية إنشاء المحاكم الخاصة، الأمر الذي أتاح إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان بموجب القرار رقم “1644” لمحاكمة الأشخاص المتهمين بتنفيذ تفجير 14 من شباط 2005، الذي أدى إلى قتل 22 شخصًا بمن فيهم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري.
كذلك الأمر في المحكمة الدولية الخاصة بدارفور ضمن القرار الأممي رقم “1593“، الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في السودان.
المصدر: عنب بلدي