” في احتمالات المتغيرات التي قد تطول الملف السوري بعد الحرب الأوكرانية”.
دفعت الحرب الروسية الأوكرانية أميركا إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وإلى إعادة قراءة الملفات الأخرى على ضوء هذا الحدث الذي تعتبره الولايات المتحدة فرصة سانحة لها كي تضعف روسيا، وكي تضع حداً لطموح “بوتين” في كسر القطبية الأحادية لها، ولهذا فإن أميركا تسعى بكل طاقتها لاستنزاف روسيا في أوكرانيا، وتحطيم اقتصادها، مع ما يعنيه هذا من احتمالات عديدة تطول مستقبل روسيا ونفوذها الجيوسياسي، وربما مصير الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي أيضا إذا استمر بوتين في عناده.
كان من أبرز تجليات القراءة الجديدة للمتغيرات التي فرضتها الحرب الأوكرانية، هو الإسراع في إنجاز الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك زيارة مسؤولين أميركيين إلى فنزويلا، في محاولة لسد النقص في أسواق الطاقة، بعد العقوبات التي فرضت على روسيا، ولتقليص محور الأعداء وضمان محايدتهم، إن لم تستطع ضمهم إلى حلفها الذي شكلته ضد روسيا.
الموقف الذي أعلنته حكومة النظام السوري بوقوفها الكامل إلى جانب روسيا، سواء عبر تصويتها في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالحها، أو عبر ما يتم تناقله حول إرسال مقاتلين سوريين إلى أوكرانيا، للمشاركة في المعارك الدائرة هناك إلى جانبها، تسبب في ارتفاع حدة التصريحات ضد النظام ورئيسه بشار الأسد، فهل تعني هذه التصريحات أن أميركا قررت فعلاً التصعيد في الملف السوري، أم أنها ستكون كسابقاتها مجرد تصريحات إعلامية تتحدد جدواها على ضوء المستجدات التي قد تفرضها الحرب الأوكرانية، وربما لا تجد أي منفذ للوصول إلى أرض الواقع؟
ما يدفع للقلق هو التفاصيل المخفية في الاتفاق النووي، فما يهم أميركا وحليفتها إسرائيل ومن خلفهما الدول الأخرى المعنية بهذا الاتفاق، هو منع إيران من امتلاك السلاح النووي، ما عدا ذلك فإن كل المشكلات الأخرى التي تتفاقم في كل الدول الإقليمية، والتي وصلت لها اليد الإيرانية سيكون قابلاً للنقاش، وربما للسكوت أو التجاهل، وإذا أردنا ألا نغمض أعيننا عن تاريخ أميركا وإسرائيل وعلاقتهما الملتبسة بإيران، فإن الاحتمال الأقوى سيكون لصالح إطلاق يد إيران في سوريا.
في لوحة أولويات الأطراف الفاعلة (إذا اعتبرنا أن الاتفاق النووي أصبح واقعاً) سوف نجد أن سوريا في أولويات الاهتمام الإيراني، فالحلم الإيراني في الوصول إلى شاطئ المتوسط هو حلم شديد الأهمية لإيران، خصوصاً أن خطوات مهمة منه قد أصبحت واقعاً ملموساً، سواء عبر “حزب الله” في لبنان، وعبر الميليشيات التابعة لإيران في العراق، أما الطرف الأميركي فهو مهتم بإعادة ثقة الحلفاء الخليجيين وفي مقدمتهم السعودية به، وإذا اتفق الطرفان على احترام أولويات كل منهما، فإن اليمن ستكون الثمن الذي ستقبضه دول الخليج، مقابل أن تكون سوريا من حصة إيران.
في هذه المعادلة تقف مصالح إسرائيل عقبة مهمة أمام هذا الاعتراف بمصالح كل طرف، لكن هل يمكن تطمين إسرائيل من قبل كل من إيران وأميركا والدول الأخرى، وهي التي تضع السلاح النووي الإيراني، ووجود إيران على حدودها ضمن خطوطها الحمراء؟
فيما يخص موضوع امتلاك إيران للسلاح النووي المقلق لإسرائيل، قد تمت إزاحته عبر الاتفاق على مراقبة صارمة لجهات دولية لمجمل النشاط النووي الإيراني، وهو البند الذي ذكرت وسائل إعلامية متعددة أنه واضح في الاتفاق الجديد ولا لبس فيه، بقي أن تقدم إيران تطمينات أخرى لإسرائيل، لتضمن عدم ممانعتها لوجودها في سوريا.
أوكرانيا وسوريا ودول كثيرة أخرى، ليست أكثر من أوراق يستحوذ عليها الكبار كي يساوموا بها في لحظات ما من التاريخ
تستطيع إيران أن تقدم هذه الضمانات، لاسيما وأنها –بعيدا عن الدجل والبروباغندا الإعلامية- لاترى في إسرائيل عدوا لها، وبالتالي فإن ضمانات أمنية مدروسة جيداً قد تدفع إسرائيل للموافقة، ومن يتذكر اشتراطات الأخيرة سابقاً برفض أي وجود عسكري لإيران ومن يتبع لها بعمق قيل إنه 50 كم من حدود فلسطين مع سوريا، وفي رواية أخرى أنه 100 كم، يتوقع أن لا يكون اتفاق أمني إيراني/ إسرائيلي في سوريا صعباً.
لكن لا بدّ هنا من السؤال البديهي، وهو مدى قبول تركيا لأن تصبح إيران على حدودها الجنوبية، وهل ستسكت عن هذا التمدد الذي يهدد بشكل مباشر أمنها القومي؟
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بالنفي أو الإيجاب القاطعين، فتركيا التي دفعت الكثير لتصبح لاعباً رئيسياً في الملف السوري، لن تقبل أن تكون حصتها أقل من حصة إيران، وبالتالي فإن التسوية التي قد ترضي كل الأطراف ويمكن أن توافق عليها ستكون تقسيم سوريا، لتصبح الحدود السورية التركية بعمق يتم الاتفاق عليه منطقة تحت السيطرة التركية، وتبقى منطقة الجزيرة تحت إدارتها الحالية وإشراف أميركي، لتصبح مثلها مثل الإقليمين الكرديين في شمال العراق.
أما روسيا التي لا تريد من سوريا سوى بقاء قواعدها العسكرية، وامتيازاتها الاقتصادية، فقد يعهد لها مراقبة هذه الاتفاقات وأن تكون ضامنة لها، لاسيما وأنها على علاقة جيدة بكل الأطراف: إيران وتركيا وإسرائيل.
في كل هذا السيناريو المُفترض يغيب السوريون، وتغيب مصالحهم الحقيقية، والعصابة التي تحكم سوريا لن تقف في وجه أي تسوية تضمن سلطتها، حتى لو كانت على نصف مساحة سوريا، فسوريا بالنسبة لها هي في النهاية مجرد مزرعة يحق لمالكها بيع، أو رهن، أو منح ما يشاء منها.
المُعطيات والمجريات اليومية للحرب الروسية الأوكرانية تشير إلى فشل حقيقي لروسيا في الملف الأوكراني، لكنها تشير أيضا إلى عدم إغلاق الباب في وجه روسيا، إذا ماقبلت في أن تعود إلى الأوركسترا العالمية التي يقودها المايسترو الأمريكي، وفي تفاصيل هذه العودة ستكون البلاد الضعيفة والتابعة هي جوائز الترضية التي ترضي الكبار.
أوكرانيا وسوريا ودول كثيرة أخرى، ليست أكثر من أوراق يستحوذ عليها الكبار، كي يساوموا بها في لحظات ما من التاريخ.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا