كنت أنتظر دوري في المستوصف الطبي المؤلف من عدّة أقسام. اتجهت عيناي نحو قسم العيادات النسائيّة حيث كانت مقاعد الانتظار تكتظ بالنساء اللاتي كنّ يترقبن ظهور الأرقام عبر الشاشة الإلكترونيّة المعلّقة على الحائط، الأرقام التي تأذن لهن بالدخول إلى غرفة الطبيب أو الطبيبة. وكما هو المعتاد، ومن أجل كسر الملل وتمضية وقت الانتظار تُجري النساء محادثات فيما بينهن، سألتْ إحداهن الأخرى عن سبب زيارتها لتقول لها من أجل الإنجاب لتضحك السائلة وتقول: “سبحان الله أنا على العكس منك أنا هنا لكي أجري مانع حمل طبي (contraceptive)”.
ذاك الموقف المتناقض بالفكرة والمتشابه بالمكان دفعني لأتواصل مع العديد من الأزواج والزوجات، لأجري معهم/ن لقاءات وحوارات عبر الإنترنت، للحديث عن تجاربهم/ن المتعلّقة بالإنجاب وللبحث أكثر عن الحقوق الإنجابيّة (Reproductive rights)، التي تقول عنها منظمة الصحة العالمية إنّ استراتيجيتها تستند إلى “تسريع التقدم إلى صكوك حقوق الإنسان المتفق عليها دوليًا والإعلانات العالميّة الصادرة بتوافق الآراء، وهي تشمل حق كلّ إنسان في الحصول على أعلى مستوى ممكن من الصحة؛ والحق الأساسي لكلّ زوجين وكلّ الأفراد في أن يقرروا بحريّة ومسؤوليّة عدد أبنائهم والمباعدة بين الولادات وأن يحصلوا على المعلومات والسبل الموصلة إلى ذلك”.
من أجل كلّ ذلك، شعرتُ بأنّ عليّ أن أسلّط الضوء على “الحقوق والقرارات الإنجابيّة” خاصة أن بعضها كانت قرارات إجباريّة غير اختياريّة، وفقًا للظروف الحياتيّة والسياسيّة، وتبعًا للقرارات الخاصة ضمن إطار الأسرة الواحدة.
من خلال البحث والملاحظة، رأيتُ أنّ العائلات الريفيّة التي تعمل ضمن الأراضي الزراعيّة خاصة، أيًا كان موقعها وتواجدها الجغرافي، تميل إلى تشكيل أسرة كبيرة واستغلال للثروة البشريّة من أجل زيادة اليد العاملة وتحسين دخل الأسرة الاقتصادي، كما هو الحال في البلدان النامية التي تعاني من الفقر والبطالة وفقدان التوازن والضمان الاجتماعي المتعلّق بالتعليم والصحة والعمل على عكس البلدان المتقدمة.
في هذا الصدد جاء ضمن تقرير صادر عن منظمة الصحة العالميّة في عام 2019 إنّ عدد وفيّات الأمومة في البلدان النامية أكبر من تلك التي تحصل في البلدان المتطورة، مع عدم نسيان المخاطر التي تواجه الفتيات في سن المراهقة غير الجاهزات للحمل والإنجاب:
“تبلغ نسبة وفيات الأمومة في البلدان النامية في عام 2015 ما يقارب 239 حالة وفاة لكل 100000 ولادة مقابل 12 حالة وفاة لكل 100000 ولادة في البلدان المتقدمة. وهناك تباين كبير بين البلدان وداخل البلدان أيضًا وبين النساء من ذوات الدخل المرتفع والمنخفض وبين النساء اللاتي يعشن في المناطق الريفيّة والحضريّة. وتواجه المراهقات دون سن 15 سنة أكبر مخاطر الوفاة في مرحلة الأمومة وتمثّل المضاعفات التي تحدث في فترة الحمل وخلال الولادة، أهمّ أسباب وفاة أولئك المراهقات في البلدان النامية”.
شركاء باتخاذ القرار
يؤمن ماهر (اسم مستعار) وزوجته بفكرة عدم الإنجاب الطوعي، يقول لي إنّه قرّر مع زوجته “عدم الإنجاب بشكل نهائي منذ لقائنا الأول علمًا أنّ ذاك القرار ليس عائدًا لظروفنا الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة ولا حتى إلى مكان تواجدنا الجغرافي، غير أنّنا نعتقد أن وجود طفل في حياتنا قد يُشكّل عائقًا أمام تطلعاتنا الشخصيّة ومستقبلنا، وفي حال قررنا مستقبلًا أن يوجد طفل في حياتنا فسوف نتبنى واحدًا”.
يبرّر ماهر قرارهما بأنّ الكثير من الأطفال يعيشون في هذا العالم في ظروف غير حيّدة، ولا يتمتع الكثير من الآباء والأمهات بالحكمة الكافية لرعاية طفل، لذلك فإنّ فكرة تبني ورعاية هؤلاء الأطفال هو بمثابة حماية لهم، وخاصة أنّهما (ماهر وزوجته) يعيشان في أوضاع مستقرة من الناحيتين الماديّة والأسريّة.
يعود ماهر بالزمن ليسرد كيف آمنَ بفكرة عدم الإنجاب: “اقتنعت بهذه الفكرة بشكل شخصي عندما كنت شابًا صغيرًا، حينها كنت أعاني من اتخاذ قرارات شخصيّة مهمّة، وتدريجيًا بدأت أعتبر إنجاب الأطفال رغبة أنانيّة لشخص يرغب بأن ينجب طفل فقط من أجل مساعدته حين يكبر. إن قرار الأهل بإنجاب طفل يعتنق دينهم وطريقة حياتهم بدون تفكير ويدعمهم ويساعدهم عند كبرهم هو قرار غير حكيم”.
تتلخص فكرة مناهضة الإنجاب أو اللا إنجابيّة (Anti-natalism) بإيمان “اللا إنجابيين” أنّ الموازنة بين الخير والشر تكمن على أن الخير هو عدم إنجاب أطفال للحياة مطلقًا، ومن اللا إنجابيين الشهيرين الفيلسوف ديفيد بيناتار والشاعر أبو العلاء المعري الذي خطّ على حجر قبره بيته الشعري الشهير “هذا ما جناه عليّ أبي، وما جنيت على أحد”، الذي يوحي بدلالة واضحة على معاناته في حياته بسبب قرار والديه في إنجابه. كذلك يدعم بعض اللا إنجابيين فكرة انقراض البشريّة والحدّ من الكثافة السكانيّة، ومنهم الدكتور هنري دبليو كيندال.
مصطلح “عدم الإنجاب الإرادي” تمّ استخدامه للمرة الأولى في الثالث من تموز من العام 1972، من قبل مجلة تايم الأمريكيّة، وذلك عندما “أُنشئت المنظمة الوطنيّة لعدم الأبوة/ الأمومة”. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم وجدت حركات ومنظمات كثيرة تهتم وتناقش القضايا المتعلقة بإنقراض الإنسان الطوعي والمؤمنة بفكرة عدم الإنجاب، وعلى سبيل مثالها لا حصرها، حركة VHEMT.
شيء ما من فرض السيطرة
تدخّلت بعض الحكومات بقوانين متعلّقة بقرارات الإنجاب الشخصييّة وقرارات تحديد النسل (Birth-control)، منها حكومة الصين التي أصدرت قوانين تحديد النسل “سياسة الطفل الواحد” في العام 1974 والتي ستساعد على تحقيق التوازن السكاني والإصلاح الديموغرافي والاقتصادي بحسب رؤيتها. فرضت الحكومة في حينه غرامات وعقوبات على كلّ من خالف القانون. لاحقًا تمّ الطعن بسياسة الطفل الواحد لانتهاكها حق الإنسان في تحديد حجم الأسرة المناسبة له/ا، فوفقًا لتصريح عام 1968 الصادر عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان إنّ “للآباء والأمهات حق إنساني أساسي في أن يقرروا بحريّة ومسؤوليّة عدد أطفالهم ومدى المباعدة بين الولادات”.
بعد سنوات طويلة من العمل بهذا القرار أعلنت وكالة أنباء الصين الجديدة أنّ بكين أنهت بشكل رسمي سياسة الطفل الواحد في 29 تشرين الأول 2015، وصادقت على مسودة قانون تسمح للأزواج بإنجاب طفل ثان.
لكن قرار تحديد النسل تطبقه بعض العائلات حول العالم بقناعة تامة، وذلك لدواعي اقتصاديّة واجتماعيّة، ومن أجل حماية صحة المرأة من تعدّد حالات الحمل المتكررة، الأمر الذي يسبب تراجع في حالتها الصحيّة مع مرور الأيام إضافة لتنظيم الأسرة وتوفير الرعاية الكاملة للأطفال من ناحية التعليم والحماية وتأمين احتياجاتهم الحياتيّة، إذ تعتبر هذه العائلات تحديد النسل أمرًا توعويًا وتثقيفيًا وتنظيميًا خاصًا بها.
يختلف قرار تحديد النسل ضمن السياق السوري حيث كان للحرب الدائرة السلطة والهيمنة للحدّ من الإنجاب عند عدد كبير من العائلات، القرار الذي كان ضمن أهم الأولويات حينها وتمّ تطبيقه والأخذ به على محمل الجد عند البعض منهم، بسبب ما آلت إليه الدواعي الاقتصاديّة والطبيّة والتعليميّة، تلك الظروف التي أحكمت السيطرة بشكل تعسفي وليس بشكل إرادي على خياراتهم، لا سيما تلك الخاصة الإنجاب.
تحكي ناديا (20 عامًا) عن تجربتها في تحديد النسل عندما كانت متواجدة ضمن إحدى مناطق الصراع والحصار في سوريا: “كنت أشعر بفيض من المشاعر المتناقضة، كانت تُعبّر تلك المشاعر عن معنى الخوف والقلق خاصة خلال تلك الفترة العصيبة للغاية، الخالية من الاستقرار الأمني والاقتصادي. شكّل قرار إنجاب الطفل الأول لدي أنا وزوجي تحديًا كبيرًا لتكون المفاضلة ما بين أن أصبح أمًا وما بين واقع الحرب الذي غيّر من مخططات الحياة بالنسبة لنا، فتارة كنت أشعر بالفرح خاصة عندما كان يكبر طفلي بداخلي وتارة كنت أشعر بالحزن عندما كنت أرى واقع الأطفال الذين حُرموا من التعليم ومن حقوقهم بشكل عام، حيث أصبح بعضهم أيتامًا وبعضهم صُنفوا ضمن ضحايا الحرب، منهم من مات ومنهم من قُدر عليهم أن تلازمهم إعاقات جسديّة لبقية حياتهم نتيجة القصف، إضافة للواقع الصحي المتدهور الخالي من توفر الطبابة وتأمين المستلزمات الصحيّة والأدوية وكثرة حالات الفقر وعمالة الأطفال. كان لا بدّ لنا من قرار تحديد النسل والامتناع عن إنجاب طفل آخر حينها إلى أن تصبح الظروف أكثر استقرارًا وأمانًا وتعافيًا”.
تقول علا مروة الإستشاريّة النفسيّة لحكاية ما انحكت إنّ الصراعات النفسيّة، وخاصة بالنسبة للنساء، قد ” تشكّلت خلال الحرب في سوريا، ما بين دافع ومشاعر الأمومة المرتبطة بالحمل وما بين صراع المسؤوليّات والواجبات المترتبة بفكرة الإنجاب، حيث كانت البعض من النساء لديهن الرغبة بالإنجاب، إلّا أنّ الظروف الاقتصاديّة والقانونيّة والصحيّة كانت تمنع البعض منهن لاستبعاد الفكرة بدافع حسّ المسؤوليّة، وتلعب التغيرات المزاجيّة والهرمونيّة كذلك دورًا هامًا أيضًا حيث تصبح المرأة الحامل أكثر حساسيّة لأيّ موقف تتعرض له والتي زادت وطأتها على النساء خلال فترة الحرب”.
هناك حالات أخرى لنساء فُرضت الظروف عليهن السيطرة ومنعتهن من الإنجاب المتكرّر مثل حالة بثينة (اسم مستعار 39 عامًا) الصحيّة التي حرمتها من أن تكون أمًا لأكثر من أربعة أطفال حسب كلامها الذي لخصته بأنّ “الإنجاب بالنسبة لي يعني أن أكون أمًا لأكثر من أربعة أطفال، لكن الظرف الذي جعل مني أمًا لطفلين فقط هو إصابتي بسرطان الثدي الذي تم على إثره استئصال ثديي، لتأتي بعدها أوامر وتوصيات الطبيب المشرف على حالتي بمنع الإنجاب مدى الحياة”.
الحقوق لا تتجزأ
“لماذا يُنظر للفقراء وخاصة الذين يعيشون في المخيمات على أنهم لا يحتاجون للحب والزواج والأطفال والتعليم والتطور، وإنّ سقف احتياجاتهم لا يتجاوز إلّا الحصول على السلة الإغاثيّة وعلى نصائح توعويّة بعدم الإنجاب والحد منه؟ تُطلق هذه الأحكام وكأن مفهوم الفقر يُلغي كل الخطوط الحمراء لخصوصيّة هذه الفئة”.
كنت أنصت لمنى (اسم مستعار، 35 عامًا) وكأنّني استخلص من كلامها أنّ سقف القماش الذي فُرض عليها وعلى غيرها من العائلات ضمن المخيمات غير قادر على أن يتحكم بمصير قراراتهم، لا سيما تلك المتعلّقة بالإنجاب.
قالت منى: “أتعرّض لكثير من النقد السلبي فقط لأنّني مع فكرة الإنجاب المتعدّد، خاصة لأنّني أعيش حاليًا مع أسرتي في إحدى مخيمات الشمال السوري بعد حالات من النزوح القسري. سوف أنجب المزيد من الأطفال غير أطفالي الأربعة طالما يسمح لي عمري البيولوجي بالإنجاب، لأنّه ماحدا مسؤول عن رزقهم وطعامهم غير أبوهم وأمهم بعد رب العالمين. أرفض الوصايا والمناشدات التي تطلقها منظمات المجتمع المحلي والعالميّة المتعلقة بالتوعية الإنجابيّة والتي أعتبرها تدخلًا مباشرًا في حياتي الشخصّية من قبلهم، خاصة عندما يُعرض على الزوجات تناول حبوب منع الحمل (Oral Contraceptives) وعلى الأزواج استخدام الواقي الذكري (Condom)”.
أضافت منى أنّ بعض العائلات الفقيرة تنجب الكثير من الأطفال من أجل تعويض النقص البشري الذي خلفته الحرب والتهجير والنزوح والقتل.
ضمن سياقات اللجوء والعمل الإنساني الذي تعمل عليه المفوضية الساميّة لشؤون اللاجئين فإنّ “الوصول إلى خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة عالية الجودة يلعب “دورًا محوريًا في سلامة البشر، وذلك ينطبق بشكلٍ خاص على الأشخاص الذين يعيشون تحت وطأة النزوح القسري. ويتمتع اللاجئون وغيرهم من النازحين –ممن تتوفر لهم إمكانيّة الوصول إلى خدمات الصحة الجنسيّة والإنجابيّة – بدعمٍ أفضل في بناء مستقبلٍ أكثر صحةً. كما يتمكنون من الاستفادة من الأثر الإيجابي الذي تحدثه هذه الخدمات في حياة العائلات والمجتمعات عمومًا”.
أجسام أرهقها الإنجاب
دائمًا ما يكون الخاسر الوحيد في تعدّد حالات الحمل هو جسد المرأة على اعتباره عرضة لأمراض جسديّة ونفسيّة، وخاصة النساء غير المُلمات بوعي اجتماعي وتثقيفي صحي، واللاتي تزوجن في سن مبكر (تزويج القاصرات)، ذلك الزواج المحكوم بالعادات التي تُوحي للنساء بأن قيمتهن الحياتيّة والاجتماعيّة تكمن فقط في تشكيل العائلة والإنجاب، وغير ذلك ليس لهنّ أيّ قيمة تذكر.
تحكي مها (اسم مستعار، 43 عامًا) تجربتها حول الإنجاب المتكرّر، ” تزوجت بعمر الرابعة عشرة، ولم أكن مدركة ما يحصل سوى أنّني سأصبح زوجة، ذلك مسار العادات والتقاليد في المكان الذي ولدت وعشت فيه، ضمن أحد مناطق الأرياف الدمشقيّة. لم أكن أعي أنّ الإنجاب المتكرّر قد يخلّف هذه المأساة البدنيّة والجسديّة. أعاني حاليًا من أمراض جسديّة ترسّخت فيّ بسبب الزواج المبكر والحمل المتكرّر. لم تكن عندي أيّ فكرة عن معنى «زواج القاصرات». الآن وبعد مضى 25 عامًا على زواجي أصبحت الداعمة لبناتي وأحرص دائمًا على تشجيعهن لإتمام تحصيلهن الجامعي، إنّ جميع ما تمّ إسقاطه علينا نحن النساء ضمن بيئتي من تربية غير صحيحة كانت تتبع لمنهجيات وايدلوجيات حياتيّة ذات قوامة فكريّة مغلوطة متعلّقة بأجسادنا المحكومة من قبل غيرنا”.
في هذا السياق تقول الاخصائيّة علا مروة إنّ ثقافة النساء الشرقيات في تشكيل الأسرة الكبيرة تعود للطابع الاجتماعي وللبيئة الحاضنة لهن، والتي تعود أسبابها إلى الاستقرار المادي الذي كان يساعد على تشجيع إنجاب أكثر من طفلين ضمن الأسرة الواحدة قبل الحرب في سوريا، إضافة لوجود المحيط الاجتماعي الداعم للمرأة الحامل المرتبط بمحيطها العائلي. كذلك، حسب مروة، ساهمت المنظمات الدوليّة ومنظمات المجتمع المدني المحليّة على توعيّة النساء والفتيات بأضرار زواج القاصرات ضمن برامج الحماية، إضافة إلى عمل المنظمات الطبيّة المتعلق بالتوعيّة الإنجابيّة وصحة النساء والجنين وذلك يتعارض أحيانًا مع ثقافة المجتمع الشرقي المرتبطة بثقافة الدين والعادات والتقاليد.
رغدة الشامية _ حكاية ما انحكت