syria press_ أنباء سوريا
معركة بلا فرسان وساحة فارغة إلا من خمسة جيوش أجنبية وميليشيات طائفية، و”سيادة وطنية” مجلّلة بعددٍ لا نهائي من الانتهاكات التي يعرفها المتنطعون بها، وأطلال وطنٍ دمّرته البراميل! وأنواع شتى من الأسلحة، وشعب بين نازح ولاجىء ومعتقل ومصاب، وجائع وبلا أدنى الخدمات في ظلّ البرد والمرض، وفي القاع مجرمون يسعون لتزوير الإرادة الحرة، باستفتاءات لاشرعية لوريث سلطة غير شرعية، من الأب إلى الولد.
بداية، لا يمكن القبول بالدخول في أي استحقاق “انتخابي”؛ للأسباب التالية:
أولًا: لوجود نظام العصابة الحاكمة، لأن ذلك يُعدّ شرعنة لإعادة تأهيل النظام، ولما يترتب على ذلك من إعفائه من تبعات تصرفاته الإجرامية وانتهاكات حقوق الإنسان، من استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا، وفي مقدمتها السلاح الكيمياوي والغازات السامة، وقصف المدنيين بالبراميل والمشافي والمدارس والأسواق، واستمراره في اعتقال مئات الآلاف من الأبرياء، ومنهم الأطفال والنساء والشيوخ.
وثانيًا: لا يمكن القبول والمضيّ بمثل هذا الاستحقاق، إلا وفقًا لتسلسل العملية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة، ووفقًا لمسار جنيف والقرار الأممي 2254، وتراتبية هذه الخطوات، كما جاء في نصّه (حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع)، ومن ثم (انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة)، وهذه الخطوات هي من مراحل الحل السياسي، وفقًا لقرار مجلس الأمن الذي يجب أن نتمسك به، كحد أدنى، كثوار ومعارضة.
في الوقت ذاته، على الشعب السوري، وخاصة الثائر والمعارض، أفرادًا وجماعات وأجسامًا سياسية (رسمية وغير رسمية)، أن يستعدّ لمختلف الاستحقاقات المقبلة، ومن هذه الاستحقاقات قضية الانتخابات، وما يتفرع عنها من إحصاء وتسجيل وتوثيق للسوريين، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو في مخيمات النزوح في الداخل السوري، ومخيمات اللجوء في دول الجوار وفي دول اللجوء الأخرى، والمهاجرين والمغتربين.
هذه العملية تستغرق وقتًا وجهدًا، وهي بحاجة إلى كوادر وفرق عمل ومختصين، وهؤلاء يحتاجون إلى التدريب والتأهيل وإلى بيئة آمنة للعمل والحركة، كما تحتاج أيضًا إلى فرق مختصة بقضايا الانتخابات من حقوقيين وقانونيين وخبراء، وهم بحاجة إلى مساعدين مدربين ومؤهلين وفقًا للمعايير الدولية وأعلى معايير الشفافية.
تقوم هذه الكوادر المؤهلة بوضع برامج توعية، وعقد ورش عمل، لتعريف الجمهور بأهمية صوته وبحقّه في إبداء رأيه في السياسة العامة والشؤون العامة، بدءًا من أصغر وحدة إدارية، مرورًا بالمجالس المحلية للبلدات والمدن والمحافظات ومجلس الشعب أو البرلمان ورئاسة الدولة والاستفتاء على مشروع الدستور. وهذا لا يمنع أيّ جهة أو جسم من تشكيل وإنشاء لجنة أو هيئة (أو تحت أي مسمى آخر) تعنى بملف الانتخابات بشكل عام، ولا يمنع أيضًا أي تجمع أو تيار أو حزب من أن ينظّر لها، من قبيل المصلحة الوطنية ووفقًا لرؤيته السياسية وأن يتحضر لها.
كما نعلم، يُطلق مصطلح المعركة الانتخابية، خلال ممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية، وهي مجال للتنافس ومبارزة الخصوم، وميدان للتفوق والربح، لمن يملك الأوراق الأقوى، والغلبة لمن يعدّ نفسه جيدًا، ويأخذ الوقت الكافي لذلك، والنجاح لمن خاض غمار التجارب وتعلّم منها.
هذه (المعركة) السلمية هي مظهر حضاري، تتجلى فيه حرية التعبير من خلال ممارسة أشكال هذه الحرية (التصويت، الاقتراع، الانتخاب، الاستفتاء)، وهي تجسيد لنقل هذه الحرية من حيّز الرؤى والأفكار، إلى الممارسة الفعلية ضمن العملية التشاركية للأفراد، والجماعات والمنظمات في إدارة الدولة والمجتمع والمرافق العامة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال اختيار ممثلين عنهم بحرية كاملة، من دون مانع قهري، من خوف واعتقال وترهيب وغير ذلك من موانع الإرادة الذاتية الحرّة، وهو حقّ حصريّ، حيث لا يجوز أن يقوم بهذا الفعل شخصٌ بدلًا من شخص آخر أو نيابة عنه، أيًّا كانت درجة القرابة والصلة، وهو حق لكل من بلغ سن الأهلية القانونية، والأهلية القانونية في سورية لمن أتمّ الثامنة عشر، من ذكر وأنثى، وفي بعض البلدان قد يصل العمر المحدد إلى سن الواحد والعشرين.
ولأن الحرية والكرامة هي شعار ثورتنا التي اشتعلت، على إثر كتابات أطفال درعا العفوية التي تنم عن نزعة أصيلة للحرية ومتأصلة في طبيعة الإنسان، طفلًا وشابًا ويافعًا إلى آخر مراحل العمر، ذكرًا أو أنثى، تضعف وتخبو، ولا تنطفىء أو تتلاشى؛ فلن تكون هناك شرعية لانتخابات، ما لم تتوفر البيئة الملائمة من أسس قانونية (دستور، قوانين عامة، قوانين انتخابات) وقضاء مستقل ومحاكم مختصة وأسس سياسية (نظام سياسي، أحزاب وتجمعات وكتل وتيارات)، ومجتمع مدني منظم (نقابات، منظمات غير حكومية حقوق إنسان، منظمات شفافية ورقابية)؛ ولا بد من وجود بنية تنظيمية وإدارية متوزعة على كامل الجغرافيا بشكل يغطي جميع الوحدات الإدارية، وهذا يتطلب بالضرورة وجود كادر مدرب ومؤهل، وهذا يحتاج إلى الوقت والجهد اللازمين.
والحديث عن الانتخابات في الحالة السورية يرتبط -كما أسلفت- بالحلّ السياسي الذي لا بدّ من توافق السوريين على المستوى الوطني لإنجازه، وهو بالضرورة -نظرًا للتداخل والحضور- بحاجة إلى توافق المستويين الدولي والإقليمي أيضًا، وهذا غير متوفر، كما هو واضح حتى الآن، وعند حصول التوافق وإنجاز الحل؛ لن تكون الظروف مناسبة فورًا لإجراء أي استحقاق.
في هذا السياق، لا بدّ من ذكر القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بتاريخ 18/ 12/ 2015، الفقرة رقم 4: “يُعرب عن دعمه، في هذا الصدد، لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية، من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015”. انتهى الاقتباس. وهذا يعني أن الوصول إلى “بيئة آمنة ومحايدة” يستدعي إنجاز الخطوات الأساسية في الانتقال السياسي، من وجود الحكم الانتقالي (هيئة الحكم الإنتقالي) الذي يتمتع بالسلطة والقدرة على إدارة البلاد، وتلاشي السلطات القمعية وسلطات الأمر الواقع، وعودة الجيش إلى ثكناته ومهماته التي انحرف عنها، ولا يمكن أن ننسى القضية الإنسانية والأخلاقية والحقوقية، وهي خروج جميع المعتقلين والمحتجزين، كشرط مسبق ومطلب فوق تفاوضي، قبل أي حديث آخر.
وأخيرًا، لا منافسة مع المجرمين ولا مشاركة في ميدان فيه المطلوبون للعدالة الدولية ومنتهكو حقوق الإنسان. المنافسة ستكون من خلال قواعد التغيير السياسي، ومتاحة لكل الأشخاص والأجسام والتنظيمات التي تؤمن بسورية وطنًا لجميع أبنائه من دون تمييز، سورية الغنية بتنوعها وعراقة شعبها. وبتحقيق أول انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، تكون ثورة الكرامة انتصرت بقيمها، بفضل تضحيات السوريات والسوريين وعزمهم وتصميمهم على التغيير، وبناء دولة العدالة والقانون وحقوق الإنسان.
بشار علي الحاج علي_مركز حرمون للدراسات المعاصرة