كما هو معلوم، عملت روسيا منذ بدء الثورة السورية على دعم النظام السوري بكلِّ ما تستطيع سواء على الصعيد السياسي أو الدبلوماسي، وقبل نهاية عام 2015 كان كل ذلك غير كافٍ؛ فتدخلت عسكرياً بشكلٍ مباشر لإنقاذ النظام المتهالك، حيث صرَّح كبار المسؤولين الرُّوس وقتها أنَّ دمشق ستسقط خلال أسبوعين، إن لم يتدخلوا بشكلٍ مباشر. حصل التدخل العسكري الرُّوسي، وارتكب الجيش الرُّوسي كلَّ المحرمات التي لم تكن تخطر على بال، لحسم الأمر في تصورهم “خلال ثلاثة إلى ستة أشهر”…ولم يحصل ذلك بعد 6 سنوات ..لم يتمكن الروس من فرض أمرٍ واقع على الأرض، وإكراه المجتمع الدولي على قبول الرؤية الروسية للحل، والتسليم بالقراءة الروسية للقرار الدولي 2254 الذي صاغه لافروف وكيري وتركت فيه عبارات كثيرة تقبل أكثر من تفسير.
تموضعت أمريكا في الشمال الشرقي، وتركيا في الشمال الغربي ورسموا خطوطاً حمراء في وجه أي محاولة روسيَّة لترجمة تصريحاتهم المتكررة والمعلنة بـ”أنَّ التدخل الروسي العسكري هو الشرعي، وعلى البقية الرحيل، ولابدَّ من بسط (السلطة الشرعية) لكامل سيادتها على الأرض السورية”…ولم يحصل هذا.
وكان لصدور قانون قيصر الأمريكي الأثر الأكبر في مراجعة الروس لحساباتهم في سورية .. لا شك أنَّ الروس حققوا تقدماً عسكرياً بانتزاع الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرة فصائل الثورة السورية، وإعادتها إلى سيطرة قوات النظام؛ ابتداءً من حلب الشرقية وانتهاءً بالوصول إلى مشارف جبل الزاوية. وحاول الرُّوس بعدها تحويل انتصارهم العسكري إلى نصرٍ سياسي واقتصادي.
من الناحية العسكرية، إضافة لاسترجاع الكثير من الأراضي لسيطرة قوات النظام، عملوا على تطوير قاعدة حميميم لتصبح قاعدة مركزية لا تغطي بعملها سورية فحسب، بل تصل إلى ليببا وأفريقيا أيضاً.. ويمكن اعتبارها مع قاعدة طرطوس البحرية أهم إنجازاتها بعد تدخلها العسكري.
أخذ الروس جزءاً من ثمن تدخلهم، ووضعوه بجيبهم وحاولوا ابتزاز العالم بمكاسب وفوائد أخرى تتأتَّى من إعادة الإعمار والمليارات التي ستدخل إلى خزائن الشركات الروسية من المانحين الغربيين والعرب. لكنَّ الروس لم يتمكنوا من تعويم مسار أستانة أو إنجاح عمل اللجنة الدستورية، وبالتالي لم يستطيعوا الالتفاف على مسار جنيف..ولم يستطيعوا أيضاً جعل سورية قاعدةَ ارتكازٍ لهم لإنشاء دور روسي في الإقليم…فقد مُني الروس بهزيمتين متتاليتين مدويتين على يد الأتراك (والمدعومين من الأتراك)، في ليبيا باندحار الجنرال حفتر عن أسوار طرابلس، ثمَّ خسارة أرمينيا للحرب في قره باخ واستعادة أذربيجان (المدعومة تركيَّاً) للإقليم المتنازع عليه، مع حدوث فضيحة مدوية للسلاح الروسي وعدم فعاليته بالحربين.
لم يستطع الروس إنجاز اختراق في الخليج العربي، من ناحية عدم تمكنهم من رعاية منظومة أمن إقليمية تضم الدول الستة وإيران وروسيا، لانتهاز فرصة تراجع الوجود أو الدور الأمريكي في المنطقة. لم يتمكن الروس أيضاً من عمل صفقات أسلحة مهمَّة مع دول الخليج العربي.وبوقوف الروس إلى جانب أثيوبيا بقضية سد النهضة، توترت العلاقة كثيراً مع مصر والسودان، وقام السودان بإلغاء ترخيص القاعدة البحرية ببور سودان على البحر الأحمر، وإلغاء اتفاق مماثل مع جيبوتي.
ولم يتمكن الروس من إقناع بعض دول الخليج العربي بتطبيع سياسي مع النظام السوري، وضخ بعض المساعدات الاقتصادية والمنح المالية له.
وبالعودة لأسباب التغير الروسية، تم رصد توتر روسي من جهة مع النظام وايران من جهة ثانية، بعد بروز الكثير من التناقضات بينهما، وزيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق، والتي قرأها الكثيرون على أنها محاولة من النظام للقفز من الحضن الروسي العسكري إلى الحضن الصيني الاقتصادي.وكل الاتفاقيات الروسية الاقتصادية مع النظام السوري منذ عام 2017..لم تلقَ من يشتريها منهم؛ خوفاً من قانون قيصر، فبقيت تلك الاتفاقيات على الورق وحبيسة الأدراج. أدرك الروس أنَّ الأمريكان غير مستعجلين لحل القضية السورية، حيث تأتي في أدنى سلم الأولويات الأمريكية، ومضت الأشهر الستة الأولى من ولاية الرئيس بايدن ولم يتم تعيين مبعوث أمريكي وفريق عمل خاص لسورية، وأرجعوا ذلك لثلاثة أسباب: أولها أنَّ الولايات المتحدة لا تعاني من مشكلة تدفق لاجئين سوريين إلى أراضيها، وثانيها أنها لا تعاني من خطر عبور إرهابيين من سورية لأراضيها…وثالثها أنها لا تقلق من مسألة تدفق إمدادات النفط إليها من سورية؛ لذلك كان التروي وعدم الاستعجال الأمريكي لمقاربة حقيقية للملف السوري. لذلك؛ أدرك الروس أنَّ عليهم العمل مع أمريكا والمجموعة الغربية والعربية (التي اجتمعت بقمة روما لوزراء الخارجية على هامش عقد المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب)..وكان المعوَّل أمريكياً على نجاح روسيا بالاختبار الذي وضعت فيه، وهو عدم استعمال حق الفيتو بمجلس الأمن لآلية عبور المساعدات الدولية إلى سورية.
يمكننا الآن الحديث عن تفاهم روسي أمريكي على خطوات متبادلة، دون معرفة إلى أين ستصل تلك الخطوات؛ بمعنى عدم وضع تصور أو خارطة طريق مشتركة أو تكديس فعل تراكمي إيجابي للخطوات بهدف الوصول إلى حل. ويمكننا أيضاً الحديث عن الخطوات التي تمَّت أو ستتم قريباً: 1-الخطوة الأولى: انتظار أمريكا لخطوة روسية بعدم استعمال حق الفيتو بمجلس الأمن، وتمرير القرار 2585 مقابل تشميل ذلك القرار بند التعافي المبكر، والذي يعفي من عقوبات قيصر مشاريع محدودة لإعادة إعمار، وبتمويل دولي تستفيد منه مالياً الشركات الروسية.
2-الخطوة الثانية تتمثل في طلب الأمريكان التعاون الروسي للوصول لتهدئة، ووقف شامل لإطلاق النار على جميع خطوط القتال، والتعاون بقضية المعتقلين والكشف عن مصيرهم وإطلاقهم مقابل السماح بعودة اللاجئين إلى المناطق التي هُجِّروا منها (أي: إلى مدنهم وقراهم) وليس إلى المناطق التي لا تخضع لسيطرة قوات النظام.
وما يتردد بأوساط الأمم المتحدة أنَّ لجنتين للمعتقلين وعودة المهجرين سيتم إنشاؤهما قريباً برعاية أممية، ويكون أعضاؤها الفاعلون من السوريين..
لا يُعرف إلى الآن، إن تمَّ الاتفاق على الخطوة الثالثة أم لا.. لكن يُرجع البعض افتعالَ النظام حربَه على درعا، وتوتيره الأجواء بها وتصعيده القصفَ على إدلب، إلى أنّها محاولة من النظام وإيران للتشويش أو لعرقلة التفاهمات الأمريكية الروسية.
باسل معراوي _ الطريق