يقود بيدرسون الأطراف السورية نحو الحل السياسي “خطوة بخطوة” بعد أن عبّد على مدار 21 شهراً أرضية مناسبة للمضي قدماً، لا تسبب بانزلاقات تفاقم الكارثة السورية المتخمة بنتائج وتبعات الحرب، ويعول المبعوث الأممي الرابع لسوريا على تعب واستنزاف الأطراف “المتصارعة” وتطورات المواقف الدولية من الملف السوري، إلا أن ملامح خطته تشي بتحويل القضية السورية من مفاوضات لانتقال سياسي وأزمة حكم في البلاد إلى أزمة حكومة وتقاسم للسلطة.
لم يأت الغزل الروسي بوفد المعارضة في الجولة الأخيرة من أستانا 17 عبثياً، عندما قال مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف لموفدة تلفزيون سوريا إن “المعارضة بدأت تبدي اختلافاً في طريقة تعاملها وباتت أكثر ليونة”، لكنه رفض موقف المعارضة من التركيز على رحيل الأسد لأنه “أمر غير واقعي”.
حملت الجولة الأخيرة من أستاناً أيضاً مؤشرات عن تحول في الموقف الروسي المقتنع بخطة بيدرسون، حيث لم نسمع هذه المرة أسطوانة “الشعارات الوطنية” المشروخة لوفد النظام السوري، وتقصدت الأطراف الراعية للجولة عدم التقاء وفدي النظام والمعارضة بشكل مباشر، تجنباً لأي مشاحنات قد تهدد جهود “تعزيز الثقة” التي يتبناها بيدرسون ويسعى لأجلها.
وفي ختام جولة أستانا 17 قال لافرنتيف في سياق تقديم “شكل جديد” لنظام الأسد: “يجب أن نتحدث عن العمل الذي تقوم به الحكومة السورية.. فقد تم الإفراج عن 500 شخص من السجون السورية اتهموا سابقا بتهم معادية للحكومة، وتم إيقاف التحقيق 66 ألف قضية متعلقة بالمطلوبين، أي أننا نرى جهودا كبيرة من قبل الحكومة السورية ويجب أن ندعم ونشجع وهذا المسار”.
برز ملف المعتقلين والمغيبين قسراً بشكل واضح على طاولات أستانا 17، فيما يبدو أنه أول ملف لاختبار خطة بيدرسون، أي خطوة إضافية ضمن الخطوات غير المعروفة، ولذلك سبق انعقاد الجولة عملية تبادل للأسرى كما يجري قبل كل جولة سابقة. ومن غير المعروف ما إذا كان سيستمر ملف المعتقلين وفق هذه الآلية البطئية، والمقصود هنا “التبادل”.
وقال وفد المعارضة لتلفزيون سوريا إنها المرة الأولى التي تتوصل فيها الأطراف إلى نقطة حاسمة بخصوص ملف المعتقلين، من دون ذكر تفاصيل إضافية. أوكل بيدرسون مهمة العمل على هذا الملف لنائبته خولة مطر التي أبدت في حديثها لتلفزيون سوريا عدم تفائلها.
معطيات بيدرسون والواقع السوري الحاليقدم بيدرسون في إحاطته لمجلس الأمن بشأن سوريا في الـ 20 من كانون الأول / ديسمبر الجاري، تفصيلاً للواقع السوري في عام 2021 الذي وصفه بأنه “عام تعميق معاناة الشعب السوري”.
- فما زال العنف مستمراً ضد المدنيين وتصاعدت مستويات الجوع مع استمرار الاقتصاد في الانهيار، ووجود 14 مليون محتاج، وعشرات الآلاف محتجزين أو مختطفين أو مفقودين، و 13 مليون سوري نازحين داخل وخارج البلاد يمثلون تحدياً مستمرا لجيران سوريا.
- لا تزال سوريا مجزأة إلى عدة مناطق، حيث ترسّخ سلطات الأمر الواقع سيطرتها على الأرض، ولا تزال خمسة جيوش أجنبية تتصارع في مسرح العمليات.
- منذ ست سنوات على اعتماده، ما زال قرار مجلس الأمن 2254 بعيداً شوطاً طويلاً عن التنفيذ.
- استقرار خريطة السيطرة على مدار 21 شهراً، ووصف بيدرسون وقف إطلاق النار هذا بـ “الجمود الاستراتيجي”، وهذا يعني لا يوجد طرف قادر على حسم الصراع عسكرياً.
- بمجرد محاولة العبث بالوضع الراهن غير المقبول أساساً، ستترتب عليه تكاليف جسيمة على الجميع لا سيما بالنظر إلى المعاناة الإنسانية، وانهيار الاقتصاد، والانقسام الفعلي للبلد.
- بيدرسون في جولاته للمنطقة ولقائه وزراء خارجية الأردن والسعودية وسلطنة عمان ومصر والإمارات ولبنان والنظام السوري، والمبعوثين الأميركيين والأوروبيين والعرب والأتراك؛ لمس قدراً كبيراً من عدم الثقة من جميع الأطراف.
- جهود قطر عرقلت المحاولات العربية وخاصة الجزائرية لإعادة النظام إلى الجامعة العربية. وجددت السعودية موقفها ضد الأسد في كلمة السفير السعودي في الأمم المتحدة عبد الله المعلمي في الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا الموقف بالنسبة لبيدرسون إيجابي لأنه يمنع الأسد من العودة إلى محيط ومناخ استبدادي ويعزز لديه فكرة نسف العملية السياسية بشكل كامل، وربما العودة للحل العسكري.
- انتخاب بشار الأسد كرئيس للنظام، وهي غير معترف بها من الأمم المتحدة لأنها لم تكن تحت إشرافها وضمن أجندة القرار 2254.
- بايدن لم ينحسب من سوريا. وهنا ربما يستشعر بيدرسون رغبة أميركية بالاهتمام أكثر بالملف السوري بعد الانسحاب من أفغانستان والعراق، ومحاولة بايدن استعادة بعضاً من هيبته أمام بوتين في سوريا وأوكرانيا.
- تركيا لم تشن عملياتها العسكرية ضد “قسد”.
- الهدوء في الجنوب السوري، والتحركات الأمنية والعسكرية الروسية باستبدال فرق النظام وانسحاب أكثر من 40 حاجزاً، لسحب فتيل أي أزمة قادمة.
- مشروع خط الغاز العربي عبر سوريا.
- بقاء قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل على ما هي عليه، دون رفع عتبة التصعيد في الأهداف والتهديدات.
- تمديد المساعدات عبر الحدود لشمال غربي سوريا، والاختراق المهم الذي حصل في القرار الأخير لمجلس الأمن بشأن ضخ الأموال في مشاريع “الإنعاش المبكر”، وتزامنت معها تسهيلات أميركية عبر تقديم توضيحات بشأن تقديم المساعدة لسوريا دون الوقوع بشباك قانون قيصر، ويضاف إلى ما سبق تحقيق تقدم في المساعدات عبر الخطوط بما يضمن موافقة موسكو على تمديد القرار لـ 6 أشهر ثانية.
- تردي الحالة الإنسانية والمعيشية في جميع مناطق السيطرة السورية دون استثناء، واستسلام الحكومات الثلاث لتدارك الوضع المعيشي والاقتصادي.
- عدم قدرة موسكو وطهران على تقديم أي جهود إعادة إعمار أو مساعدة إنسانية أو اقتصادية كبيرة للنظام.
- ضعف التمويل الدولي الإنساني الكبير مقارنة بالكارثة الحاصلة في كل سوريا.
الخطوات القادمة؟
صرح أحمد طعمة، رئيس وفد المعارضة السورية إلى محادثات أستانا، أنه ليس لديهم موقف واضح حتى الآن من نهج “خطوة مقابل خطوة” الذي بدأه المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن، “لأننا نحتاج إلى أن نعرف أولاً ما الذي يعنيه هذا النهج ومن سيتخذ الخطوات”.
وأضاف: “هل سيأتي هذا النهج بحل سياسي؟ هل سيستفيد الشعب السوري من هذه الخطوات؟ إن كان النظام وحده من سيستفيد منه، فمن الطبيعي أننا سنعارضه”.
بيدرسون مقتنع بحسب إحاطته في مجلس الأمن أن “الطريق إلى الأمام سيكون بالضرورة تدريجياً، لكن لا ينبغي لأحد أن يتوقع معجزات أو حلولاً سريعة“.
وقال في إحاطته: “آمل أن نتمكن من البدء في تحديد خطوات تدريجية ومتبادلة وواقعية ودقيقة ويمكن التحقق منها ويمكن اتخاذها بالتوازي لبناء الثقة والمساعدة في دفع العملية السياسية إلى الأمام تماشيا مع قرار مجلس الأمن 2254”.
ركز بيدرسون في تصريحاته خلال العام الماضي على جهود “تعزيز الثقة“، ويبدو بحسب ما حملته الجولة الأستانية الأخيرة أن ملف المعتقلين يلقى قبولاً لدى النظام والمعارضة على حد سواء. وطلب في زيارته الأخيرة لدمشق معلومات عن مصير مفقودين ومعتقلين.
وعلى المستوى الإنساني، سيدفع باتجاه زيادة التمويل الدولي للمساعدات الإنسانية والتركيز أكثر على مشاريع “الإنعاش المبكر” التي وافقت عليها واشنطن على مضض خوفاً من أن تفتح باباً لإعادة الإعمار أو تكون طريقة للتحايل على الفيتو الغربي بشأن إعادة الإعمار المشروط بإحراز النظام السوري مزيداً من الخطوات الحقيقية في الحل السياسي.
ويرى بيدرسون أن مشاريع “الإنعاش المبكر” ستنعكس إيجاباً على الظروف الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وخاصة في ترميم البنى التحتية المتهالكة كشبكات المياه والصرف الصحي وترميم أو بناء المشافي والمدارس، ويعززها إعادة الحياة لمشاريع “سبل العيش” وتمويلها مجدداً.
ووضعت الأمم المتحدة خطة مدتها 6 أشهر تنتج “عمليات إنسانية أكثر قابلية للتنبؤ وأكثر استدامة”، بحسب إحاطة بيدرسون.
وقد تتجاوب واشنطن مع خطة بيدرسون أكثر وفق استراتيجية العصا والجزرة مع النظام السوري، من خلال تخفيف الضغط عليه كما حصل في السماح لخط الغاز العربي وتوضيحات الخزانة الأميركية بشأن الإعفاءات من قانون قيصر، مقابل تجاوب من قبل النظام للانخراط بشكل حقيقي في المسار السياسي، وهذا يكون أيضاً ضمن تكتيك “خطوة بخطوة”.
ويسعى بيدرسون لإشراك مزيد من الفاعلين في مسار جنيف إلى جانب الأوروبيين والروس والأتراك والقطريين، للدفع أكثر في العملية الدستورية التي يأمل أن توصله إلى مرحلة التفاوض على إجراء انتخابات، وهنا سيواجه تحديات رفض الأسد مشاركة السوريين خارج البلاد بها، وقبول المعارضة بترشيح الأسد نفسه، وهي تبدو مهمة صعبة جداً لكنها ليست مستعجلة، وستكون خطوة يسبقها عدد من الخطوات.
أما مسار أستانا فسيكون معنياً بالقضايا ذات الطابع الأمني والإنساني، وفيها يلتقي الثلاثي التركي والروسي والإيراني على طاولة المفاوضات لضبط عتبة الصراع.
يأمل بيدرسون أن توصل هذه الجهود إلى مزيد من تعزيز الثقة وتقريب الأطراف المحليين والدوليين من بعضهم وخلق أرضية واضحة وثابتة للتقدم بخطوات أخرى إلى الهدف النهائي.
من أزمة حكم إلى أزمة حكومة.. هل يتحايل بيدرسون على 2254؟
منذ توليه المهمة الصعبة، أعرب النرويجي المخضرم والمبعوث الأممي الرابع إلى سوريا عن إحباطه الشديد من الجمود المسيطر على العملية السياسية المكلف بتسييرها، وتسببت عشرات الجلسات واللقاءات في المسارات التفاوضية بإيمان راسخ لدى السوريين أن كل ما يجري هو شراء للوقت لحين نضوج توافق دولي بشأن سوريا على المدى الطويل، وهكذا لم يعد السوريون يولون أهمية للتصريحات والقرارات واللقاءات والخطط، سواء كانت خطوة بخطوة أو هرولة متعثرة.
أما قسم آخر من الناشطين والسياسيين السوريين فيرون أن العملية السياسية حالياً هي مخطط “خبيث” للالتفاف على القرار 2254، الذي ينص في مضمونه الأساسي على انتقال سياسي شامل في سوريا تديره “هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية”. والآن يبدو أن خطة بيدرسون (خطوة بخطوة) ستعزز وجهة النظر هذه، لأنها تشي وفق المعطيات المتاحة حالياً بأن بيدرسون يسعى لإنهاء “صراع على الحكم بين أطراف سورية” أو تقاسم للسلطة على النموذج اللبناني وتقديم دستور جديد يفتح الباب لانتخابات برلمانية ورئاسية، في حين يغيب هدف السوريين الأول والأساسي المتمثل بإسقاط الأسد وإقامة دولة تضمن كرامة السوريين.
ويضع هذا الشكل الجديد لإدارة العملية السياسية، المعارضة السورية أمام استحقاق كبير وصعب لتعزيز حضورها محلياً ودولياً وترتيب بيوتها لتكون قادرة على المشاركة بقوة في أي خطوة قادمة، أو ربما المشاركة بانتخابات في نهاية المطاف في حال وصل بيدرسون إلى ما يصبو إليه.
عبد الله الموسى _ تلفزيون سوريا