قررت الدبلوماسية الإيرانية تسديد ثمن أخطاء قوة بلادها الخشنة، من حساب نفوذها في سوريا. هكذا يمكن قراءة التغير المفاجئ في الموقف الإيراني من العملية العسكرية التركية المرتقبة في ريف حلب. إذ كانت إيران أبرز المعارضين لها قبل أقل من شهر، لتتحول قبل أيام، إلى “متفهمٍ” لضروراتها بالنسبة للأمن التركي.
بدأت القصّة حينما تلقت إيران سلسلة من الصفعات الاستخباراتية الإسرائيلية، في عقر دارها، متمثلةً باغتيالات وميتاتٍ غامضة طالت ضباطاً في الحرس الثوري، ومهندسين في البرنامج النووي. فقرر ذراع إيران الخارجي – الحرس الثوري- الرد عبر الساحة التركية، من خلال استهداف سياح إسرائيليين. أُجهضت العملية بتعاون استخباراتي تركي – إسرائيلي، في وقتٍ يتصاعد التحشيد السياسي المناوئ لإيران في المنطقة، على هيئة دعوات لتأسيس تكتل سياسي – عسكري يستهدف عزلها، برعاية أمريكية. فوجدت إيران نفسها في موضعٍ سيء للغاية، مهددةً بخروج تركيا من معادلات “التعاون التنافسي” التي ربطتها بطهران، على مدار أكثر من عقدٍ من الزمن، والتي أتاحت لطهران متنفساتٍ ثمينة للغاية، في أحلك ظروف العقوبات الغربية عليها. وقد استغلت تركيا ظروف التحشيد الإقليمي ضد إيران، كي تقلب الطاولة على تمادي الأخيرة في استغلال الأراضي التركية كساحة لتصفية الحسابات مع إسرائيل. فهذه ليست المرة الأولى التي تنوي فيها إيران استهداف إسرائيليين في تركيا. لكنها قد تكون الأخطر. وقد أرسلت تركيا رسالة صارمة للإيرانيين، أنها لن تقبل بتهديد سمعتها الأمنية والسياحية، في مقتل.
ولتلافي الضرر الذي أحدثه تمادي الحرس الثوري في نشاطاته الانتقامية المزمعة ضد إسرائيل، على الأراضي التركية، لم يكن كافياً أن تعزل طهران رئيس استخبارات حرسها الثوري، المخضرم، حسين طائب. بل أوفدت وزير خارجيتها، حسين عبد اللهيان، إلى أنقرة، للتفاوض على ثمنٍ ما، تقرر أن يكون في سوريا.
فإيران لا يمكن أن تتحمل انقلاباً كاملاً في الموقف التركي حيالها. واليوم، تبدو طهران بأمس الحاجة لأنقرة، في وقتٍ تغيب فيه المؤشرات عن حدوث انفراج في تعقيدات إعادة إحياء الاتفاق النووي، حتى بعد إجراء مفاوضات غير مباشرة في قطر، والتي انتهت الجولة الأولى منها إلى الفشل، وإلى إحباطٍ أمريكي معلن. الأمر الذي يرجح المزيد من التصعيد السياسي والأمني، وعلى صعيد العقوبات، بين واشنطن وطهران. وفي معضلة العقوبات تحديداً، تثمّن طهران الرفض التركي لها، بصورة كبيرة. إلى جانب خشيتها من أن تنضم أنقرة لتكتل إقليمي مناوئ لها، خاصة بعد التحسن الكبير في العلاقات التركية – الإسرائيلية، في الآونة الأخيرة. وهو ما لا يمكن لطهران تحمله.
وإن كان من المبكر الذهاب بتلك المقدمات إلى أقصاها، على صعيد تقييم حجم التنازل الإيراني المحتمل في سوريا، إذ قد تسعى طهران للتوسط بين “قسد” وتركيا، لإيجاد حل وسط يلغي مبررات العملية التركية، خاصة أن المناطق المستهدفة (تل رفعت، منبج)، ستجعل فصائل “الجيش الوطني” المدعوم تركياً، على تخوم مناطق خاضعة للسيطرة الإيرانية، إلا أنه من المستبعد، في الوقت نفسه، أن تضيّع أنقرة الفرصة المتاحة الآن، لتنفيذ مرحلة جديدة من تعزيز أمنها القومي، داخل الأراضي السورية. وكان من الواضح أن القيادة التركية تريثت في بدء العملية العسكرية، لتخفيف التكاليف الميدانية المحتملة، إلى أقصى حدٍ ممكن، باستخدام الدبلوماسية. وهو ما نجحت في فعله مؤخراً، عبر عزل المعارضة الأمريكية، والآن الإيرانية، عن التوسع التركي المرتقب، غربي الفرات. فيما يلف الغموض الموقف الروسي، الذي تأثر سلباً بقبول تركيا انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، قبل أيام.
ختاماً، يمكن لنا أن نقول: إن طهران في وارد القبول بتقديم “تل رفعت، ومنبج”، كعربون حسن نيّة لتركيا، لإعادة ترميم العلاقة معها، في تحولٍ نوعي غير مسبوق في استراتيجيات الصراع التنافسي بين الطرفين، على الساحة السورية.
إياد الجعفري _ الطريق