syria press_ أنباء سوريا
تبدو الإجابة عن بعض الأسئلة للوهلة الأولى بدهيةً لا تحتاج إلى براهين، لكنّ المسألة في الواقع أعقدُ من ذلك. فعلى سبيل المثال، تظهر في البلدان التي لم تنجز خطوات التحوّل الديمقراطي، في أوقات الأزمات العاصفة والثورات، قضايا مهمّة مثل حقوق الأقليات وحماية التنوّع وحقوق الفئات المستضعفة، من النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها من الفئات. والإشكال الذي يجعل هذه الأسئلة مثار اهتمام هو المفاضلة بين هذه الحقوق من جهة، والحقوق السياسية الكبرى التي تناضل الشعوب من أجلها من جهة ثانية، مثل الديمقراطية والحريات العامة والفردية والتداول السلمي للسلطة السياسية والفصل بين السلطات وحياد الدولة تجاه الأديان وضمان حقوق الإنسان الأساسية، وغيرها من القضايا الكبرى التي غالبًا ما تتصدر المطالب المجتمعية، عند الأحزاب والفئات المتصارعة. من هنا، تأتي مشروعية السؤال، عن إمكانية تجزئة الحقوق، وعن فائدة ذلك، وعن مبررات ذلك ومدى قبولها.
تبدو المقاربات أكثر واقعية، عندما نتحدث عن حالات مشخّصة بعينها، ولنأخذ الحالة السورية مثالًا واقعيًا راهنًا ودائم التسخين. وباعتبار أنّ المجتمع السوري من أكثر مجتمعات المنطقة تعقيدًا، على مستوى البنى والتراكيب الدينية والقومية والاثنية والطائفية والمذهبية، وباعتبار أنّ الاستبداد المقيم منذ ما يربو على ستين عامًا، من أيام الوحدة مع مصر، قد شوّه هذا المجتمع، بحيث بات التداخل -عند أكبر الفئات المجتمعية عددًا- بين الاستبداد والعَلْمانية، وبين الاستبداد وحُكم الأقليات، شبه قناعة نهائية، كما باتت المطالبة بتغيير هذا الحال -عند فئات عديدة وازنة- مرتبطةً بمحاولات فرض استبداد ديني محل استبداد أقلّ حدّة من الناحية الاجتماعية، بالنسبة إليهم على الأقلّ، باعتبار الأخير يرفع شعار حماية الأقليات، من الأغلبية العددية المتهمة سلفًا بمحاولة السيطرة وإلغاء الآخر، فإنّ هذا المثال -الحالة السورية- سيكون ذا قيمة خاصّة لطرح هذه الأسئلة الإشكالية.
لنأخذ موضوع مشاركة المرأة في عمليات التفاوض أو التحضير لها، على سبيل المثال، ومن هذه الجزئية البسيطة، يمكننا رؤية قضايا أكثر تعقيدًا؛ فهذا الموضوع بالذات لاقى انتقادات كبيرة -من جانب المجتمع الذكوري في الغالبية الساحقة- بدعوى أنه يجتزئ الحالة المجتمعية، ويختزل معاناة السوريين بقضايا فرعية، وأنّ إنجاز الاستحقاقات الكبرى أَوْلى من البحث عن إدراج قسري لنسبة 30% من السيدات، في كل اللجان العاملة بالشأن السوري… وغير ذلك من الحجج والمبررات.
فعلى سبيل المثال، تمّ توجيه النقد إلى “المجلس الاستشاري النسائي” الذي أنشأه المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان ديمستورا عام 2016، والذي يُسدي المشورة إلى مكتب المبعوث الخاص حول مختلف القضايا المتعلقة بالعملية السياسية، ووُصم أعضاؤه بعبارات تمييزيّة تحمل في طيّاتها إهانة للنساء عمومًا، مثل عبارة “نساء ديمستورا”. قد يجد المرء بعض المبررات لأوجه محددة من النقد الذي وجّهته فئات محسوبة على الثورة والمعارضة إلى هذا المجلس، خاصة لطريقة تشكيله ولانتماءات بعض السيدات المشاركات فيه وخلفياتهنّ، من حيث إن بعضهنّ محسوبات كليًّا على النظام، وينتمين إلى أُسر يُشتبه بارتكاب أفرادٍ منها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، في العقد الأخير أو في أثناء أحداث الثمانينيات في سورية. لكن ما لا يستطيع المرء تبريره هو هذا الوصم التمييزي الذي تعرّضت له النساء عمومًا، من جرّاء وجود عطب ما أو خلل معين في آليات إشراكهنّ في صناعة الحلول للمشكلات السياسية، التي هنّ جزء أساسي من المجتمع الخاضع لها والمتأثر بها.
في عام 2014، لم يكن يوجد أي سيدة على طاولة المفاوضات بين النظام والمعارضة في جنيف، وفي عام 2017 لم تتجاوز نسبة السيدات 15% من عدد المفاوضين. وهذا الأمر -بغض النظر عن آليات تفعيل مشاركة النساء التي قد يشوبها بعض العيوب- لا يُنصف السيدات، “فمن أجل التوصل إلى عملية شاملة، نحتاج إلى وجهات نظر جميع شرائح المجتمع المختلفة، وتشكّل النساء السوريات أكثر من خمسين بالمئة من المجتمع، لذلك عندما نجلب أصوات ووجهات نظر النساء السوريات إلى عملية السلام، فإننا نحاول الاستجابة لمطالب أكثر من خمسين في المئة من المجتمع”.
تقودنا هذه الأمثلة والمقاربات إلى السؤال الرئيس الذي يشكل جوهر هذا المقال: هل تتجزّأ الحقوق، وهل من الأفضل حسم القضايا الأساسية التي تهمّ عموم المجتمع، من دون تخصيصٍ لقضايا تهمّ فئات محددة منه، أم من الأفضل أن يكون الطرح والإنجاز شاملًا كل القضايا الأساسية والفرعية والاستحقاقات الاجتماعية المعلّقة؟ الحقيقة أنّ الإجابة على هذا السؤال ليست بالسهولة المتوقّعة، فلكل طرف حججه ومؤيداته التي يضعها على الطاولة، وهي لا تخلو -بطبيعة الحال- من الوجاهة والمعقولية. ويذهب كاتب هذه السطور إلى تأييد الاتجاه القائل بأنّ حسم جميع القضايا الإشكالية أفضل، ما دام ذلك ممكنًا، لأنّ مؤدّى التأجيل الافتئات على حقوق شرائح واسعة من المجتمع، وهي متضررةٌ من الاستبداد، مثل بقية الشرائح، ومشاركةٌ في الصراع، أو ما زالت تتحمل أوزاره وتبعاته من جهة أولى، ومن جهة ثانية، لا بدّ من إعطاء قضايا جميع المواطنين الأهمية نفسها، بالاستناد إلى تساوي مراكزهم القانونية، وفق الدستور وأمام القانون وفيه.
علاوة على ذلك، لا يمكن التذرّع بمبدأ التدرّج التاريخي الذي أوصل هذه القضايا إلى أن تصبح عنصرًا أساسيًا في دساتير وتشريعات الدول المتقدمة، لأنّ ذلك يخالف مبدأ الحقوق الإنسانية المكتسبة، فلا يمكننا -على سبيل المثال- القول بأنّ النساء في أوروبا لم يحصلن على حقّ الانتخاب والترشح، إلا بعد عشرات السنين من النضال، كي نبرر مبدأ مماثلًا في دستورنا العتيد الذي نصارع لأن يكون عقدنا الاجتماعي الجامع، فلا أحد يقبل الآن أن تُمنح النساء المتزوجات فقط حقّ التصويت، أو اللواتي بلغن الثلاثين من العمر، أو اشتراط موافقة الزوج أو مرافقته لزوجه عند الإدلاء بصوتها!!
من القضايا التي لاقت رواجًا، على صعيد البحث والنقاش، موضوع جندرة الدستور أو الدستور المتوافق مع منظور النوع الاجتماعي (الجندر)، وهي قضايا ليست قليلة الأهمية، إذا ما قرأناها من منطلق النسبة العددية للنساء في المجتمع، والمشاركة الفعلية لهنَّ في الصراع الدائر في سورية منذ عشرة أعوام، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالنساء عمومًا، وبمن كنّ في الجانب الثائر أو المعارض لنظام الحكم خصوصًا.
“من المهم، في أثناء التحولات السياسية، التركيز على حقوق المرأة والمساواة الجندرية، لاغتنام الفرصة من أجل تصحيح الإقصاء التاريخي للنساء من المجال السياسي. لقد بيّن لنا التاريخ أنّ حقوق المرأة هي في قلب النضالات الوطنية، من أجل التحرر والانتقال السياسي. والنساء على الخط الأمامي لهذه النضالات، لكنهنّ غالبًا ما يجدنَ أنفسهنّ مستبعدات من عملية صنع القرارات المتعلّقة بصنع مستقبل بلدانهنّ، ومن بناء الدستور. هكذا، لا يمكن لعملية إصلاح نحو الديمقراطية أن تنجح، إلا إذا أخذت حقوق الإنسان، للنساء والرجال معًا، في الحسبان، واحترمتها”.
لقد أثبتت تجارب الشعوب أنّ مشاركة النساء كانت فاعلة جدًا، في صنع عمليات السلام بين الأطراف المتصارعة؛ “فقد لعبت النساء دورًا رئيسيًا في الترتيب لاتفاق بلفاست، في إيرلندا الشمالية في عام 1998، إذ قضين عقدًا في بناء الثقة بين البروتستانت والكاثوليك، وفي تكوين القاعدة التي جرت في نهاية المطاف مفاوضات السلام بناءً عليها. مثال آخر على ذلك رواندا، حيث شكّلت النساء أول جماعة برلمانية متعددة الأحزاب، تضمّ أعضاء من الهوتو والتوتسي، فشكلت سابقة لتأسيس جماعات أخرى متعددة الأحزاب”.
يقودنا هذا في النهاية إلى القول بأنّ الحقوق لا تتجزّأ، ولن يكون في صالح المجتمعات الخارجة من الصراع أن تتجاوز قضايا شرائح واسعة ومهمّة من المجتمع، بحجّة أولوية دعم الأمن أو الاستقرار السياسي أو إعادة الإعمار، فالاستقرار المجتمعي مبنيّ على إرضاء جميع شرائح المجتمع، وإيصالها إلى حالة مشاركة فعّالة في بناء المستقبل المشترك، على أسس جديدة تحترم حقوق الجميع وتلبّي متطلباتهم، وبغير هذا؛ ستبقى إمكانات تجدد الصراع متاحة باستمرار.
حسان الأسود _ حرمون للدراسات المعاصرة