تبقى قضية المعتقلين السوريين في سجون الأسد هي القضية التي توجب الحديث الدائم والعمل الجاد بعيداً عن جدوى التكرار والاستمرار، ليس اندفاعاً بفعل واجب أخلاقي لا يتيح للضمائر المتيقظة أن تركن إلى الاستسلام للظلم فحسب، بل يمكن التأكيد على أن هذه القضية هي كالجرح المتدفق وجعاً لا يترك لصاحبه جفناً يغمض ولا أعصاباً تهدأ ولا نفساً تصفو، طالما بقي الكائن البشري حيّاً شاهداً على مأساة تتجدّد فصولها يوماً بعد يوم، وتتشعّب تداعياتها ما دامت السجون مكتظة بالآلاف من بنات وأبناء سورية دون أن يكون للزمن أي حساب ضابط.
لقد أتاحت المرجعيات الأممية لقضية المعتقلين أن تحظى بأولويتها ذات الأحقية، ذلك أن جميع القرارات ذات الصلة بالقضية السورية تضمنت بنوداً واضحة الدلالات تؤكد على أولوية معالجة المحتجزين والمغيبين في سجون النظام، ولعل أبرزها القرار 2254 لعام 2015، إذ تؤكد بنوده (12–13–14) على أن قضية المعتقلين تندرج ضمن القضايا الإنسانية غير الخاضعة للتفاوض.
وكان من المفترض أن تكون الترجمة الفعلية لذلك هي إطلاق سراح المعتقلين قبل البدء بأي خطوة تفاوضية، ولكن هذا الأمر لم يحصل، بل تم تجاوز هذه المسألة بموافقة ومباركة وفود المعارضة التي واظبت على التفاوض سواء من خلال مسار أستانا أو جنيف، ظنّاً منها أن التمسّك بمطلب معالجة قضية المعتقلين سيفقدها فرصة التفاوض مع نظام الأسد، بل ربما يدفع بها إلى خارج حلبة الحل السياسي.
الكيانات الرسمية للمعارضة لم تكن بالأصل، منذ نشأتها وحتى الآن، تمتلك الإمكانيات والوسائل اللازمة للعمل من أجل المعتقلين، وأعني بذلك افتقادها إلى المعلومات الكافية الموثقة سواء بأعداد المعتقلين أو أسمائهم أو أماكن وتواريخ اعتقالهم
أضف إلى ذلك أن تلك الكيانات الرسمية للمعارضة لم تكن بالأصل، منذ نشأتها وحتى الآن، تمتلك الإمكانيات والوسائل اللازمة للعمل من أجل المعتقلين، وأعني بذلك افتقادها إلى المعلومات الكافية الموثقة سواء بأعداد المعتقلين أو أسمائهم أو أماكن وتواريخ اعتقالهم، وغالباً ما التمست الأسباب التي تعفيها من هذا العبء من خلال توجيه اتهاماتها الدائمة إلى منظمات المجتمع المدني التي هي وحدها تمتلك قواعد بيانات للمعتقلين، وذلك بفضل ما تمتلكه من إمداد مالي من جهات خارجية، وفقاً لما يقوله الائتلاف وهيئته الخاصة بشؤون المعتقلين.
ولئن امتنعت منظمات المجتمع المدني عن تزويد الائتلاف بما تمتلكه من وثائق، فحجتها في ذلك هي الممارسات الفوقية والاستعلائية التي يبديها الائتلاف حيال تلك المنظمات، لاعتقاده بأنه صاحب السيادة السياسية في تمثيل السوريين، وهكذا، وفي ظل تلك المناكفات والاتهامات المتبادلة بين الأطراف ظلت قضية المعتقلين لا تحظى بالحضور المطلوب، باستثناء بعض المنظمات الحقوقية التي قدّمت جهداً متميّزاً في هذا المضمار، وفي مقدمتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وكذلك بعض المنظمات والروابط السورية التي كرّست جهدها لمتابعة قضايا المعتقلين، كذلك لا يمكن إغفال المساعي الفردية التي تقوم بها بعض الشخصيات الحقوقية السورية من تقديم المعلومات وإثارة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان أمام المحاكم الدولية.
في بداية شهر نيسان الماضي، أقدمت صحيفة غارديان البريطانية على نشر الفيديو الذي يكشف عن مجزرة حي التضامن التي ارتكبها نظام الأسد بحق مواطنين سوريين، شهر نيسان 2013، ولعل منسوب التوحّش الذي أفصح عنه الفيديو المذكور استطاع إلى حدّ كبير أن يلفت أنظار المجتمع الدولي والعالم كافة إلى فظاعة ما تمارسه السلطة الأسدية بمصائر عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، ثم تعزّز هذا الشعور العالمي بجانب من مأساة السوريين حين أقدم رأس النظام في سوريا على إصدار ما سماه عفواً عاماً، في السابع من نيسان الماضي، في محاولةٍ منه لتحييد الأنظار والإعلام العالمي عن وقائع مجزرة حي التضامن.
إذ إن وقائع وتداعيات العفو المذكور قد أنتجت ردّة فعل سلبية لم تكن تتوقعها سلطات الإجرام في دمشق، ونعني بذلك المشاهد التي أظهرت أهالي المعتقلين وهم يملؤون الساحات والأماكن العامة سواء في منطقة ما يُدعى بجسر الرئيس بدمشق، أو في صيدنايا، وهم يرقبون بحرقة عارمة خروج أبنائهم ومفقوديهم، أضف إلى تلك الانطباعات التي تركتها في النفوس مشاهد بعض المعتقلين الذين أُفرج عنهم، إذ كانت الأحوال الصحية للعديد منهم تفصح بوضوح عن طبيعة الممارسات التي يواجهها المعتقلون في السجون.
لم يكن العفو المزعوم الذي أعلن عنه النظام، والذي لم يشمل سوى مئات من المعتقلين حتى الآن، كافياً لإقناع أحد بصدق نوايا الأسد أو جدّيته في معالجة ملف الاعتقال في سوريا، بل ربما كان مردوده العكسي قد أثار من جديد تلك القضية وعزز الاعتقاد لدى الجهات الحقوقية الدولية بأن مصير مئة وثلاثين ألفاً من المغيّبين في سجون الأسد لا يمكن شطبه والتغاضي عنه من خلال الإفراج عن بضعة مئات فقط، الأمر الذي يخلق فرصة جديدة ومناخاً مناسباً أمام كيانات المعارضة الرسمية لإثارة قضية المعتقلين، بل إعادتها إلى المقدمة، باعتبارها قضية إنسانية ساخنة لا تخضع لصراع المصالح الإقليمية والدولية النافذة في الشأن السوري، بل يمكن أن يكون هذا الملفّ الإنساني هو الأقدر من سواه على إيجاد حالة من التوازن في مسار التفاوض السياسي، نظراً لافتقاد المعارضة إلى أوراق قوّة أخرى سواء عسكرية أو سياسية.
وقائع اليوم الأول وكذلك الثاني من لقاءات اللجنة الدستورية تؤكّد أنْ لا قضية المعتقلين ولا سواها ممّا يلامس أوجاع السوريين أو أولوياتهم بقادر على تحقيق الحضور الكافي أو اللازم في لقاءات اللجان الدستورية
وانطلاقاً من هذا التصوّر مال كثيرٌ من السوريين إلى الى الظن بأن اللقاء الثامن لاجتماعات اللجنة المُصغرة للجنة الدستورية الذي انعقدت جلساته الأولى، في 29 من أيار الفائت، سيحظى بحضور قوّي لقضية المعتقلين السوريين، نظراً للزخم الإعلامي الذي أحدثه فيديو مجزرة التضامن، وربما أدرك وفد المعارضة ما هو مطلوب منه، أو على الأقل ما ينتظره السوريون من هذا اللقاء، إلّا أن وقائع اليوم الأول وكذلك الثاني من لقاءات اللجنة الدستورية تؤكّد أنْ لا قضية المعتقلين ولا سواها ممّا يلامس أوجاع السوريين أو أولوياتهم بقادر على تحقيق الحضور الكافي أو اللازم في لقاءات اللجان الدستورية، وذلك نظراً للمهام الوظيفية التي تقوم بها تلك اللجان، والتي باتت مُلزمة بمتابعة المسار المطلوب دون أيّ تشويش ودون أية محاولة لخلط الأوراق وبعثرتها.
وربما هذا ما دفع بالرئيس المشترك لوفد المعارضة بنشر مقال يؤكد فيه حرصه الشديد ومبلغ اهتمامه بقضية المعتقلين، وكذلك عدم تهاون وفده الدستوري بجميع أولويات السوريين ابتداء من القضايا الإنسانية وحتى مسألة الانتقال السياسي، إلّا أنه من المؤكّد أن هذا المقال الاستباقي للقاء الثامن للجنة الدستورية، هو مُوَجّهٌ لعموم السوريين – عبر الإعلام – أمّا ما قاله وسيقوله هو ووفده الدستوري للجهات المفاوِضة الأخرى، داخل الأروقة الدولية هو كلام آخر.
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا